مقدّمة
تمتد العلاقة بين جمهورية مصر العربية وجمهورية فنزويلا البوليفارية إلى سبعة عقود ونصف، منذ تفعيل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين في منتصف القرن العشرين. وبالرغم من البعد الجغرافي والفوارق الإقليمية، فإن مصر وفنزويلا نجحتا في بناء علاقات تستند إلى رؤى مشتركة حول التضامن بين دول الجنوب، ودعم سيادة الدول، والتعاون متعدد الأبعاد. واليوم، ومع احتفالهما بمرور ٧٥ عاماً على علاقاتهما، تبدو الفرصة سانحة لقراءة هذه الشراكة من منظور جديد، يشمل تطورها التاريخي، ومجالات التعاون، والرؤى المشتركة، وأخيراً آفاق التعاون.
أولاً – مصر وفنزويلا.. جذور متأصلة وتاريخ ممتد:
منذ تأسيس العلاقات الدبلوماسية رسميًا في 15 نوفمبر 1950، وضعت مصر وفنزويلا أساسًا لصداقة متينة تَجاوزت الفجوة الجغرافية البعيدة بين قارةأإفريقيا وأمريكا الجنوبية، وبَنيت على قيم الاحترام المتبادل والتعاون. بالرغم من الاختلافات الثقافية والإقليمية، لطالما شكّلت هذه العلاقة منبراً للحوار والتنسيق في القضايا الدولية، لا سيما من خلال عضوية كلا البلدين في مجموعات مثل حركة عدم الانحياز ومجموعة الـ 15.
على المستوى التاريخي، بدأت المبادرات التمهيدية للتبادل الدبلوماسي قبل عام 1950، عندما أرسلت فنزويلا وفدًا سياسيًا إلى مصر عام 1949 لدراسة آفاق إقامة علاقات اقتصادية ودبلوماسية. ومنذ ذلك الحين، تبلورت عدة اتفاقيات أساسية عبر العقود، مثل اتفاقيات التعاون الثقافي (1981)، والتعاون الاقتصادي الفني (1988)، وكذلك مذكرات تفاهم في مجالات التشاور السياسي والطاقة.
في العقود الماضية، جاءت التوجهات السياسية بين البلدين لتؤكد التزامًا مشتركًا بمبادئ القانون الدولي والتسوية السلمية للنزاعات، وجاءت زيارة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو إلى مصر في عام 2022 لتعزز هذا التوجه، كما تلتها زيارة وزير خارجية فنزويلا إلى القاهرة في نوفمبر 2023 حيث شدّد الجانبان على احترام حقوق الشعوب في تقرير المصير، ورفض العقوبات الأحادية، مع إعراب الطرفين عن تطلعهما لتعميق التعاون الاقتصادي في قطاعات كالسياحة والزراعة والطاقة.
أما في الجانب الاقتصادي، فالتعاون بين البلدين لم يقتصر على التوقيع على الاتفاقات فقط، بل شمل مشاريع ملموسة: إذ رحّبت فنزويلا بعطاءات لشركة إنبي المصرية للبترول، مع وعد بتنسيق الدعم والتسهيلات مع الجانب المصري لتنفيذ مشروعات نفط وغاز داخل الأراضي الفنزويلية، فضلًا عن المباحثات المستمرة لتعزيز التبادل الزراعي، وتوسيع الإنتاج المشترك لضمان الأمن الغذائي.
ويلعب البعد التنموي دوراً مركزياً في الشراكة بين البلدين، وخصوصاً في الطاقة والزراعة. ففنزويلا، المنتِجة الكبيرة للنفط، تبحث عن نقل خبرات فنية وإدارية ومشروعات من مصر. وفي هذا السياق، أوضح وزير البترول المصري أن الجانب المصري مستعدّ لدعم فنزويلا في مشروعاتها البترولية، وقد تم تدريب أكثر من 70 مهندساً فنزويلياً في مصر. كما أن التعاون في البنية التحتية والطاقة يُعد من الخيارات المستقبلية لتوسيع الشراكة، بين البلدين.
وقد أكد على ذلك وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي خلال لقائه مع وزير خارجية فنزويلا جيل بينتو على هامش الاجتماعات رفيعة المستوى للدورة الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2024، حين أشار إلى أهمية تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين وزيادة معدلات التبادل التجاري وإمكانية استفادة فنزويلا من الصادرات التي تمتلك مصر ميزة تنافسية فيها، مشدداً على ضرورة توسيع نطاق التعاون ليشمل مجالات مثل الزراعة والإنتاج الحيواني ومصايد الأسماك والطيران المدني.

ولئن بدت العلاقات دبلوماسية وسياسية في كثير من الأحيان، فإن البعد الثقافي كان دائمًا ركيزة مهمة في هذه العلاقة. في الأعوام الأخيرة، إذ زادت الحركة الثقافية بشدة؛ فمثلت مصر كضيف شرف في معرض فنزويلا الدولي للكتاب، حيث ألقى ممثلون مصريون محاضرات حول الإسلام ودور الثقافة في السلام. كما أكّد السفير المصري في كاراكاس على أن العلاقة بين الدولتين “ليست علاقة روتينية، وإنما مبنية على مبادئ مثل السيادة والمساواة وعدم التدخل.
من جهتها، احتفلت سفارة فنزويلا في القاهرة بمرور 75 عامًا على العلاقات الدبلوماسية مع مصر، من خلال فعاليات موسيقية وفلكلورية حضرها سفراء وشخصيات فنية، في إشارة واضحة إلى استخدام القوة الناعمة كجسر لتحقيق التقارب بين الشعبين، كما نُظّمت في كاراكاس مراسم خاصة اختير فيها شعار صداقة بين مصر وفنزويلا، بمشاركة مصممين من كلا البلدين وأطفال يعبرون بأعمال فنية عن الروابط بين الشعوب.
ثانيًا- مصر وفنزويلا .. رؤى مشتركة ومواقف متقاربة
تتسم العلاقات بين مصر وفنزويلا بتقارب واضح في الرؤى حيال عدد من القضايا الدولية والإقليمية، إذ يجمع البلدين الالتزام بمبادئ النظام الدولي القائم على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وهو ما يُعد مرتكزًا أساسيًا في السياسة الخارجية لكل منهما منذ عقود. ويعكس هذا المبدأ إيمان الدولتين بأن استقرار النظام الدولي لا يتحقق إلا من خلال احترام استقلال الدول وحقها في إدارة شؤونها وفق أولوياتها الوطنية بعيدًا عن الضغوط الخارجية.
ولا تقتصر نقاط الالتقاء بين مصر وفنزويلا على المبادئ العامة المتعلقة بالسيادة وعدم التدخل، بل تمتد لتشمل توافقًا في عدد من الملفات الإقليمية والدولية. فكلا البلدين يولي أهمية خاصة لدور الأمم المتحدة وضرورة إصلاح هياكلها بما يجعل النظام الدولي أكثر عدالة وتمثيلًا لمصالح الدول النامية، وهو ما ظهر في مداخلاتهما المتكررة داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي اجتماعات حركة عدم الانحياز. كما يجتمع البلدان على ضرورة تعزيز التعددية الدولية في مواجهة النزعات الأحادية، والتأكيد على مركزية الحوار الدبلوماسي في إدارة الأزمات الدولية.
كما يتبنى البلدان موقفًا موحدًا تجاه ضرورة حل النزاعات بالطرق السلمية عبر الحوار والتفاوض، وليس عبر اللجوء إلى القوة أو فرض المواقف الأحادية. وقد تجلى هذا التوجه في مداخلات مصر وفنزويلا في الأمم المتحدة، وكذلك في اجتماعات حركة عدم الانحياز، حيث يعبر الطرفان باستمرار عن رفضهما لأي ممارسات تزعزع السلم العالمي أو تقوض التعددية الدولية.
وتتعمق نقاط الالتقاء كذلك في دعم البلدين لمبادئ القانون الدولي، خاصة فيما يتعلق بحق الشعوب في تقرير مصيرها وتحقيق تنميتها المستدامة دون التعرض لأشكال التمييز أو الهيمنة. ويُعد هذا التوجه انعكاسًا لتجربتي البلدين التاريخيتين في مقاومة الضغوط الخارجية، وكذلك لسياستهما القائمة على تعزيز الاستقلال الوطني وتوسيع قاعدة القرار السيادي.
وفي السياق الاقتصادي، يبرز تقارب مصري–فنزويلي بشأن ضرورة إقامة نظام اقتصادي دولي أكثر عدالة، يُمكّن دول الجنوب من الحصول على نصيب عادل من الموارد والتكنولوجيا. وتبرز أهمية هذا البعد في ضوء دور فنزويلا المهم في أسواق الطاقة العالمية، ومساعي مصر للتحول إلى مركز إقليمي للطاقة في شرق المتوسط. وقد أسهم هذا الإدراك المشترك في توطيد التنسيق بين الجانبين داخل منابر الطاقة الدولية، وفي دعم الحوار بشأن استقرار أسواق النفط والغاز.
أما في إطار التعاون الدولي، فيلتقي البلدان حول أهمية تعزيز العمل الجماعي للجنوب العالمي عبر منصات مثل مجموعة الـ77 + الصين، حيث يدافعان عن ضرورة إصلاح مؤسسات التمويل الدولية، وتخفيف أعباء الديون، وتطوير آليات تدعم التنمية المستدامة. كما يشدد البلدان على رفض استخدام العقوبات الاقتصادية كأداة ضغط سياسي، معتبرينها انتهاكًا لحقوق الشعوب في التنمية.
كما يجدد الجانبان تأكيدهما على دعم القضية الفلسطينية باعتبارها قضية مركزية في النظام الدولي، إذ تؤيد فنزويلا الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني بصورة علنية، بينما تلعب مصر دورًا محوريًا في الوساطة ودعم مسارات السلام. ويعزز هذا التوافق من تنسيق المواقف بين البلدين في الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان.
وبشكل عام، يمكن القول إن التقارب المصري–الفنزويلي يقوم على رؤية مشتركة لعالم أكثر توازنًا، قائم على التعددية، واحترام الخصوصيات الوطنية، ورفض الهيمنة، وتعزيز التعاون جنوب–جنوب . وتساعد هذه الرؤية في بناء أرضية صلبة لتطوير العلاقات الثنائية مستقبلًا، سواء في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو التنموية.

ثالثا- مصر وفنزويلا .. آفاق واسعة وفرص واعدة
تفتح العلاقات المصرية–الفنزويلية آفاقًا واسعة للتطوير في مرحلة تشهد فيها السياسة الدولية تحولات جوهرية تدفع الدول إلى تنويع شراكاتها وتعزيز حضورها في دوائر الجنوب العالمي. وتمثل الذكرى الخامسة والسبعين للعلاقات الدبلوماسية فرصة لإعادة صياغة إطار التعاون بين البلدين بما يتيح الانتقال إلى شراكة استراتيجية عملية، لتأطير العلاقات التاريخية التي تجمع البلدين.
وفي هذا السياق، يُعد إطلاق اللجنة العليا المشتركة بين مصر وفنزويلا خطوة رئيسية لإعداد خارطة طريق واضحة للتعاون خلال العقد القادم، بحيث تشمل الطاقة التقليدية والمتجددة، والتعاون الزراعي، والصناعات الصغيرة والمتوسطة، والسياحة. وقد شددت تقارير وزارة الخارجية المصرية على أهمية هذه اللجان في تفعيل الاتفاقات الثنائية وبناء مسارات تنفيذية مستقرة للتعاون الدولي.
كما يمكن للبلدين الاستفادة من إمكانياتهما في مجالات الطاقة المتجددة والتحول الرقمي؛ إذ تُعد مصر واحدة من أبرز الدول العربية التي توسّعت في مشاريع الطاقة الشمسية، بينما عبّرت فنزويلا في عدة محافل عن رغبتها في إعادة هيكلة اقتصادها عبر إدخال تكنولوجيا الطاقة النظيفة وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر وحيد للدخل. ويمكن لهذه المشتركات أن تفتح الباب أمام إقامة مراكز تدريب وبحوث مشتركة في مجالات الطاقة، والمعالجة الرقمية، والتكنولوجيا الزراعية.
ومن جانب آخر، يمثل التفاعل الثقافي والتبادل الشعبي ركيزة مهمة لتعميق الروابط الإنسانية بين الشعبين. فالتجارب الدولية تُظهر أن العلاقات الثقافية تساهم في تعزيز الثقة وبناء فهم متبادل بين الشعوب، وهو ما أكدته تقارير اليونسكو حول دور الدبلوماسية الثقافية في دعم العلاقات الثنائية. ويمكن لمصر وفنزويلا تطوير برامج تبادل طلابي بين الجامعات، وإطلاق أسابيع ثقافية مشتركة، وتوسيع التعاون في مجالات السينما والفنون، خاصة مع تميز كل منهما في إنتاج محتوى ثقافي غني.
الباحثة “نورهان أبو الفتوح ” تكتب لـ “المحروسة نيوز ” : المكسيك .. إنتخابات تاريخية .. بقيادة نسائية
يمتلك البلدان فرصة لتعزيز حضورهما الدولي من خلال تفعيل التعاون داخل الأطر متعددة الأطراف، ولا سيما مجموعة الـ77 + الصين، وحركة عدم الانحياز، ومنتديات الحوار العربي–الأمريكي اللاتيني. إذ تمثل هذه المنصات مجالًا مهمًا لتنسيق المواقف تجاه القضايا السياسية والاقتصادية الدولية، وإبراز مصالح دول الجنوب في مواجهة التحديات العالمية مثل اختلالات النظام المالي الدولي، وتغير المناخ، وأزمات الطاقة والغذاء. إن العمل المشترك داخل هذه التكتلات لا يمنح مصر وفنزويلا فقط مساحة أكبر للتأثير الدبلوماسي، بل يتيح لهما أيضًا بناء تحالفات مرنة تدعم مواقفهما في الأمم المتحدة والهيئات المتخصصة، وتعزز من قدرتهما على الدفاع عن حقوق شعوبهما التنموية والسيادية.
وتشير دراسات اللجنة الاقتصادية لأمريكا اللاتينية والكاريبي (ECLAC) إلى أن التعاون جنوب–جنوب أصبح إحدى أهم الأدوات الداعمة للتنمية المستدامة، لما يوفره من فرص لتبادل الخبرات والتقنيات بين الدول ذات الظروف الاقتصادية المتقاربة. وتؤكد هذه الدراسات أن تعزيز هذا النوع من التعاون يسهم في بناء قدرات وطنية مستقلة، وتنويع الشراكات بعيدًا عن الاعتماد على القوى التقليدية، فضلًا عن دوره في خلق بيئة أكثر مساواة في المجال الدولي. وبالنظر إلى خبرة مصر في مجالات الطاقة والبنية التحتية، وخبرة فنزويلا في قطاع النفط والموارد الطبيعية، فإن تعزيز الانخراط في برامج التعاون جنوب–جنوب يمكن أن يشكل قناة فعّالة لتطوير مشاريع مشتركة وطرح مبادرات إقليمية تدعم التنمية في كل من الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية.
كما أن فتح المجال أمام شراكات القطاع الخاص—من خلال تيسير الاستثمارات وتبادل الوفود التجارية—سيمنح العلاقات دينامية تتجاوز الطابع الرسمي الحكومي. ويمكن للشركات المصرية في مجالات الدواء، ومواد البناء، والطاقة، والزراعة، أن تجد فرصًا حقيقية في السوق الفنزويلية، في حين تملك فنزويلا قدرات كبيرة في قطاع النفط والبتروكيماويات يمكن أن تستفيد منها السوق المصرية.
وختامًا، يمكن القول إن العلاقات المصرية-الفنزويلية، التي تبلغ اليوم خامس وسبعين عاماً، تُجسد نموذجاً لعلاقة دولتين من عالم الجنوب تربطهما قيم مشتركة وإرادة تعاون. رغم أن هذه الشراكة لم تصل بعد إلى أقصى إمكاناتها الاقتصادية، فإن الأسس مُتاحة، والإرادة السياسية حاضرة، فقد تحولت هذه العلاقات على مر الزمن من مجرد تبادل دبلوماسي إلى شراكة متعددة الأبعاد، تشمل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية، وتُدار اليوم برؤية استراتيجية تتطلع نحو تعميق التعاون ومعالجة التحديات المشتركة، مدفوعة بتاريخ من الثقة المتبادلة والاحترام العميق.
وجدير بالذكر أنه إذا ما واصلت مصر وفنزويلا تنمية علاقاتهما بروح المبادرة، بتفعيل لجان مشتركة، بإشراك القطاع الخاص والمجتمع المدني. فإن السنوات القادمة قد تشهد نقلة نوعية في هذه الشراكة، لتصبح فاعلة ومؤثرة في محيطها الإقليمي والدولي.



