خلال حرب الاستنزاف التي استمرت 6 سنوات، منذ هزيمة يونيو 67، وحتى تحقيق النصر في السادس من أكتوبر 73، عاشت القوات المسلحة فترات عصيبة، فخلال تلك الحرب الطويلة تعلمنا الكثير والكثير، تطبيقاً لمبدأ شهير، لدينا نحن العسكريون، بأن “الحرب تعلم الحرب”.
خلال تلك السنوات الست من عمر حرب الاستنزاف، أقام العدو الإسرائيلي خطه الدفاعي “بارليف”، المكون من 31 موقع حصين، على طول الضفة الشرقية لقناة السويس، من مدينة بورسعيد حتى السويس. تكون الموقع من عدة طوابق، استغل فيها العدو قضبان السكة الحديد الموجودة في سيناء، على خط القنطرة-العريش، لتكون أسقف تلك النقط الحصينة، ومن فوقها الدبش، ثم خزانات النابالم، التي قرر اطلاقها فور عبور قواتنا للقناة، ليحول مياه القناة إلى جحيم، تحرق القوات المصرية.
كما أسس العدو الإسرائيلي مصاطب لدباباته ومدفعيته وأسلحة الضرب المباشر، فضلاً لمناطق إيواء جنوده تحت كل هذه التحصينات، وأحاطها بحقول ألغام مضادة للدبابات والأفراد والأسلاك من 3-4.
وزود كل من المواقع الحصينة بأجهزة رؤية ليلية، وتلسكوبات، توفر لهم مراقبة كل ما يتم في الخارج، دون خروج جندي الحراسة المكلف بالمراقبة من مكانه، الواقع وراء بوابات من الصلب الفولاذي، الذي لا يمكن اختراقه بأي أنواع من المتفجرات.
بل وتم تصميم الموقع الحصين للتصدي لأية محاولات اختراق أو هجوم مصرية، فحينها يتحصن بداخله الجنود الإسرائيليون، ويطلبون من المدفعية الإسرائيلية إطلاق النيران على الموقع، لأنهم في أمان، بداخله، من دانات المدفعية، بينما سيتم تدمير القوات المصرية المهاجمة من الخارج.
وأمام ذلك التحصين لخط بارليف من نيران المدفعية، كان الخبراء السوفييت، الموجودون مع قواتنا المصرية، حينها، يرون أن تدمير خط بارليف غير ممكن إلا باستخدام القنبلة الذرية، إلا أن ذلك لم يصبنا، أبداً، بالإحباط، بل زادنا إصراراً وعزيمة على اقتحام هذا الخط الدفاعي، وتدميره، الذي تُعّرفه المراجع العسكرية العالمية، بأنه أهم الخطوط الدفاعية، في التاريخ، شأنه كشأن خط ماجينو، الذي بناه الفرنسيون، بعد الحرب العالمية الأولى، لمنع الألمان من الهجوم على فرنسا، في الحرب العالمية الثانية.
وللبدء في مرحلة التخطيط لعبور قناة السويس واقتحام خط بارليف، كان لابد وأن يكون لدينا معلومات كاملة ودقيقة عن كل نقطة من نقاط خط بارليف الحصينة، لنتمكن من وضع خطة الهجوم بدقة، وهو ما لم يتوفر لدينا، مع الأسف.
فكان لابد وأن نطبق أحد أساليب القتال المتاحة، إما بالهجوم على أحد النقاط وخطف أسير، أو عمل كمين للعناصر الإسرائيلية المتحركة، مستهدفين أن يكون بينهم ضابطاً إسرائيلياً، وآملين أن يكون لديه المعلومات المطلوبة.
وبعد دراسة البدائل، تقرر اختيار الثاني منهما، وتم التخطيط، بالفعل، لتنفيذ كمين ضد قوة إسرائيلية متحركة، لأسرها.
وبالفعل، تم التخطيط لتنفيذ العملية في منطقة جنوب البحيرات، بقوات من المجموعة 39، بقيادة “أسطورة الصاعقة المصرية”، الشهيد إبراهيم الرفاعي، على أساس عبور المجموعة ليلاً، ودفن أنفسهم في الرمال، على طريق مرور الدوريات الإسرائيلية، ثم الاشتباك معهم وأسر قواتهم، للحصول على كنز المعلومات المتوفر لديهم.
وفي يوم العملية تم عبور مجموعة الكمين ليلاً، يرتدي كل منهم خف جمل، كي لا تتبع أثارهم أثناء التحرك على الرمال، وحتى الوصول إلى الطريق الأسفلت، الذي تتحرك عليه عربات الدوريات الإسرائيلية، إذ كانت المروحيات الإسرائيلية تمشط المنطقة الرملية، يومياً، بواسطة طائرة مروحية صغيرة، تحلق على ارتفاع عدة أمتار، لمراقبة أي آثار لعبور المصريين من القناة إلى الطريق.
وبفضل من الله، وبحسن التخطيط، نجحت، يومها، قوة الكمين المكونة من خمسة أفراد، من مجموعة الشهيد الرفاعي، من العبور، وكانت قوات المدفعية المصرية مستعدة لتأمينهم أثناء المهمة، وحتى عودتهم.
وبالفعل وصلت قواتنا إلى الطريق، ودفنوا أنفسهم في الرمال، بدقة عالية، عجزت أمامها مروحيات العدو عن كشفهم.
وفجأة ظهرت عربة لوري إسرائيلية على الطريق، وهو ما يعد صيد ثمين، نظراً لأن مثل تلك العربات الضخمة، تحمل، دائماً، أعداداً كبيرة من القوات الإسرائيلية العائدة من إجازاتهم.
وعند اقتراب العربة من منطقة الكمين، أطلقت قواتنا رصاصة على السائق، فأردته قتيلاً، وتوقف اللوري، على الفور، فاندفعت قوة الكمين لمهاجمته، وتم أسر الإسرائيلي الجالس بجوار السائق، ومعه حقيبة أوراقه ومستنداته، وبسرعة فائقة، اندفع به أحد أفراد قواتنا، نحو القناة، ليعود إلينا، بينما باقي أفراد المجموعة 39 يهاجمون اللوري، لأسر باقي الجنود الإسرائيليون الموجودون به، فكانت المفاجأة بأنها السيارة عبارة عن “عربة كانتين”، محملة بالسجائر والمياه الغازية، والمشروبات الكحولية، مهمتها المرور على المواقع الإسرائيلية، لإمداد قواتهم باحتياجاتهم من تلك المواد.
لا أنكر إصابتنا، حينها، بالإحباط، حتى تم إرسال الأسير الإسرائيلي إلى المخابرات الحربية المصرية، لاستجوابه، فكانت المفاجأة بأنه أغلى أسير إسرائيلي، تمكنت منه مصر، أثناء حرب الاستنزاف، فقد كان يحمل معه مستندات كل موقع حصين، من نقاط خط بارليف، شاملة اسماء جميع الضباط والجنود في كل منها، بتفاصيلهم الوافية، حتى ديون كل منهم مقابل استهلاكهم من السجائر والمشروبات.
وبعد تلك العملية، تبدل الحال، وصار لدينا كل ما نحتاجه من بيانات عن كل المواقع الحصينة الإسرائيلية في خط بارليف، وهو ما يعتبر أمر نادر الحدوث في ميادين القتال، إلا أن يد الله العلي القدير كانت فوق أيدينا، لتتمكن مصرنا الغالية من وضع خططها لمهاجمة خط بارليف القائمة عل المعلومات الدقيقة التي حصلنا عليها من أغلى أسير إسرائيلي في حرب الاستنزاف.
Email: [email protected]