"الدكتور محمد عبد المنعم صالح" يكتب لـ " المحروسة نيوز " : العناصر الثقيلة وتأثيراتها على الصحة العامة والبيئة (2 - 2)

مقدمة

أوضحت في المقالات السابقة مخاطر التلوث بالعناصر الثقيلة، وأواصل في هذه الحلقة الحديث عن تلوث البيئة المائية نظرًا لأهميتها الكبرى، إذ تُعد الأسماك ثروة اقتصادية وغذائية واسعة الانتشار في مختلف أنحاء العالم.

فالأسماك تتميز بأنها رخيصة الثمن نسبيًا، وذات قيمة غذائية عالية، كما أنها سهلة الهضم، معتدلة السعرات الحرارية، وغنية بالأحماض الدهنية غير المشبعة على عكس اللحوم الحمراء، مما يجعلها عنصرًا غذائيًا رئيسيًا لصحة الإنسان.

تعريف العناصر الثقيلة

العناصر الثقيلة (Heavy Metals) هي عناصر تمتلك خصائص فيزيائية وكيميائية مشابهة للفلزات الانتقالية وبعض أشباه الفلزات، وتضم مجموعات اللانثانيدات والأكتينيدات.

تتميز هذه العناصر بكون كثافتها تزيد على 5 جرامات لكل سنتيمتر مكعب، وغالبًا ما تُعرف باسم المعادن السامة (Toxic Metals) نظرًا لتأثيراتها الضارة على الكائنات الحية عند ارتفاع تركيزها.

تلوث المياه بالعناصر الثقيلة

توجد العناصر الثقيلة بصورة طبيعية في النظام البيئي، إلا أن النشاط الصناعي والبشري أدى إلى زيادة نسبها بشكل مقلق، وخاصة نتيجة:

تصريف النفايات الصناعية والسائلة دون معالجة.
تسرب الأيونات المعدنية من التربة إلى البحيرات والأنهار.
الأمطار الحمضية الناتجة عن احتراق الوقود الأحفوري.
المخلفات الناتجة عن عمليات التعدين والمصانع الكيماوية.

تراكم العناصر الثقيلة داخل أنسجة الأسماك

تلوث بيئي عالمي:
أدى انتشار التلوث في البيئة إلى تلوث الأسماك بالمواد الضارة بالصحة مثل المبيدات ومياه الصرف الصناعي والزراعي. ويُعد مدى تلوث الأسماك في منطقة ما مؤشرًا دقيقًا على مستوى التلوث البيئي فيها.
خطورة المعادن الثقيلة:
تُعد عناصر مثل الحديد، النحاس، الزنك، الرصاص، والكادميوم من أخطر أنواع الملوثات، نظرًا لقدرتها على التراكم داخل أنسجة وأعضاء الأسماك عبر الامتصاص المباشر من المياه أو الغذاء.
تأثيرات تراكمية مستمرة:
تمتاز هذه المعادن بأنها غير قابلة للتحلل، مما يؤدي إلى تراكمها مسببًا أضرارًا حادة ومزمنة للكائنات المائية. ومن العلامات الدالة على تلوث الأسماك بالمعادن الثقيلة اسوداد الغشاء البريتوني الذي يُلاحظ عند تنظيف الأمعاء وتزداد الخطورة في الأسماك الكبيرة الحجم التي تتغذى على أسماك أصغر، مما يؤدي إلى تراكم كميات أكبر من السموم.

الخياشيم كمؤشر حساس للتلوث:
تُعد الخياشيم من أكثر أعضاء الأسماك تأثرًا بملوثات المياه، نظرًا لتماسها المباشر مع البيئة الخارجية. وتُستخدم دراسات تراكم العناصر في الخياشيم والعضلات كوسيلة لتحديد مصادر التلوث ومراقبته بيئيًا.

استخدام الأسماك كمؤشر حيوي لتلوث المياه

تُستخدم الأسماك البحرية وأسماك المياه العذبة كأحد أهم المؤشرات الحيوية (Bioindicators) في برامج المراقبة البيئية، لقياس مدى تلوث البيئات المائية بالعناصر الثقيلة.

فالعناصر السامة تنتقل عبر السلسلة الغذائية، إما مباشرة من خلال الماء والغذاء أو عبر الخياشيم، وتنتقل تأثيراتها من كائن إلى آخر حتى تصل إلى الإنسان الذي يقف في قمة الهرم الغذائي.

وتتميز الأسماك بقدرتها على تركيز الملوثات في أنسجتها بدرجة أعلى من المياه نفسها، بسبب تغذيتها على الكائنات الصغيرة والمواد العضوية المتراكمة في البيئة المائية.

درجة سمّية العناصر الثقيلة وتأثيرها على صحة الإنسان

أولاً: تقسيم العناصر الثقيلة

تنقسم العناصر الثقيلة إلى نوعين:

عناصر أساسية: مثل الحديد، النحاس، الزنك، المنجنيز، والكوبالت، وهي ضرورية بتركيزات منخفضة لعمل الإنزيمات والعمليات الحيوية.
عناصر غير أساسية وسامة: مثل الكادميوم والرصاص والزئبق، وهي شديدة الخطورة حتى بتركيزات ضئيلة، لقدرتها على تدمير الخلايا والتراكم داخل الجسم.

أخطر العناصر الثقيلة الملوثة للمياه والأسماك

1. الكادميوم (Cd)

من أشد العناصر سمية، ويحدث التسمم به نتيجة تناول أغذية أو مشروبات تحتوي على تركيزات مرتفعة (أكثر من 16 ملجم/لتر).
وتظهر أعراض التسمم بعد تراكمه داخل الجسم لسنوات، وتشمل:

الغثيان والقيء وآلام البطن.
لين العظام (Osteomalacia) نتيجة انخفاض امتصاص الكالسيوم والفوسفور.
ارتفاع ضغط الدم بسبب انقباض الأوعية الدموية.
إصابة الكلى والفشل الكلوي في الحالات المتقدمة.
تأثيرات مسرطنة على الرئة والبروستاتا.

وقد حددت منظمة الصحة العالمية (WHO) الحد الأقصى المسموح به لتناول الكادميوم بـ 450 ميكروجرامًا للفرد يوميًا، على ألا تتجاوز نسبته في الأسماك 100 جزء في البليون.

2. الرصاص (Pb)

ينتج تلوث المياه والأسماك بالرصاص عن النشاط الصناعي مثل مصانع البطاريات والأنابيب المعدنية والتخلص من المخلفات الكيميائية.
ويؤثر الرصاص على:

الجهاز العصبي والدموي والكلى.
الأنشطة الكيميائية الحيوية داخل خلايا الجسم.
ومن أعراض التسمم:
الأنيميا والهزال وفقدان الشهية.
تلون اللثة باللون الأزرق عند ارتفاع تركيز الرصاص بالدم إلى 6–8 جزء في المليون.
وفي الحالات المتقدمة يؤدي إلى الفشل الكلوي.

وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية إلى أن الحد الأقصى المسموح به هو 500 جزء في البليون للأسماك الطازجة، و1000 جزء في البليون للأسماك المعلبة.

3. الزئبق (Hg)

يُعد الزئبق أكثر العناصر الثقيلة سمّية، وهو من السموم التي تؤثر مباشرة على المخ والجهاز العصبي المركزي.
يدخل الزئبق إلى جسم الإنسان عبر تناول الأسماك الملوثة، ويتراكم داخل المخ والأنسجة العصبية.
ومن أعراض التسمم:

اضطرابات عصبية وفقدان الذاكرة.
رعشة اليدين وتدهور القدرات الحسية.
انتقال الزئبق إلى الجنين داخل رحم الأم مسببًا تلفًا دماغيًا وتشوهات خلقية.

وتوصي منظمة الصحة العالمية بألا يتجاوز تركيز الزئبق في الأسماك 500 جزء في البليون، مما يعني أن تناول أكثر من 500 جرام من الأسماك أسبوعيًا المحتوية على هذه النسبة يمثل خطرًا صحيًا.

وقد وصلت نسب الزئبق في بعض الأسماك اليابانية إلى 20 ألف جزء في البليون، وهو ما دفع الخبراء إلى الدعوة لإجراء اختبارات دورية للعناصر الثقيلة في الأسماك المستوردة من المناطق الصناعية مثل اليابان وغرب أوروبا، خاصة أسماك الماكريل والتونة.

دعوة للتفكر والتوازن البيئي

قال الله تعالى في كتابه الكريم: “أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها”
(سورة الحج – الآية 46)

وقال سبحانه أيضًا: “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها” (سورة الأعراف – الآية 56)

فلنتقِ الله في مواردنا الطبيعية، ولنحافظ على بيئتنا المائية، فحماية الثروة السمكية تعني حماية حياة الإنسان ذاته.

نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل، وهو سبحانه الموفق والمستعان.

✍️ كاتب المقال