آثار ومصرياتأخبار

شروق الحضارة.. تعامد الشمس على وجه رمسيس الثانى فى معبد أبو سمبل

في يوم 21 أكتوبر، 2025 | بتوقيت 9:47 مساءً

بقلم: د. عبد الرحيم ريحان

في مشهد مهيب يتجدد مرتين كل عام، تتعامد أشعة الشمس اليوم 22 أكتوبر على وجه الملك رمسيس الثاني داخل معبده العظيم بأبو سمبل، في واحدة من أروع الظواهر الفلكية التي أبهرت العالم وأكدت عبقرية المصري القديم في علم الفلك والهندسة المعمارية.

اكتشاف المعبد وأسرار التسمية

تم اكتشاف معبد أبو سمبل عام 1817 على يد المستكشف الإيطالي جيوفاني بيلونزي، بمساعدة طفل صغير من سكان المنطقة قاد فريقه إلى الموقع، ليُخلَّد اسمه في التاريخ بإزززطلاق اسم “أبو سمبل” على المعبد.

أما ظاهرة تعامد الشمس فقد رُصدت لأول مرة عام 1874 بواسطة المستكشفة البريطانية إميليا إدواردز، التي وثّقت المشهد في كتابها الشهير «ألف ميل فوق النيل» الصادر عام 1899.

روعة التصميم ودقة التوقيت

نُحت المعبدان — الكبير للملك رمسيس الثاني والصغير لزوجته الملكة نفرتاري — في صخور الجبل خلال القرن الثالث عشر قبل الميلاد، تخليدًا لانتصارات الملك في معركة قادش.

ويخترق شعاع الشمس الممر الأمامي بطول 60 مترًا ليصل إلى قدس الأقداس، فيضيء وجوه ثلاثة تماثيل: رمسيس الثاني، رع حور آختي، وآمون رع، بينما يبقى تمثال الإله بتاح في الظلام احترامًا لكونه «إله الظلمة».

تستمر الظاهرة نحو 20 إلى 25 دقيقة في عرض فلكي دقيق لا يتكرر إلا في 22 أكتوبر و22 فبراير من كل عام، بعد أن كانت تقع يومي 21 أكتوبر و21 فبراير قبل نقل المعبد إلى موقعه الجديد.

نقل المعبد وإنقاذ التراث

تأخر التعامد يومًا واحدًا بعد نقل المعبد إلى موقعه الحالى على مرتفع يعلو 66 مترًا فوق مستوى النيل، ضمن مشروع إنقاذ آثار النوبة الذى رعته اليونسكو بين عامي 1960 و1980، بعد تهديدها بالغرق إثر بناء السد العالي.

وفي عام 1979، تم تسجيل معابد النوبة من أبو سمبل إلى فيلة على قائمة التراث العالمي تقديرًا لقيمتها الأثرية والإنسانية الفريدة.

تعامد الشمس على معبد أبى سمبل

أسرار الظاهرة الفلكية

يرجّح علماء الآثار أن تصميم المعبد تم وفق حركة الفلك، بحيث يتزامن تعامد الشمس مع يوم ميلاد الملك رمسيس الثاني ويوم تتويجه على العرش، أو ليرمز إلى بداية موسمي الزراعة والحصاد في مصر القديمة.

وقد سبق المصريون القدماء عصرهم في علم الفلك، فقسّموا السنة إلى ثلاثة فصول: الفيضان (آخت)، بذر الحبوب (برت)، والحصاد (شمو)، كما رصدوا الكواكب الخمسة المرئية واخترعوا الساعة الشمسية.

تعامدات شمسية أخرى في مصر

ليست أبو سمبل وحدها التي تشهد هذه الظاهرة المبهرة؛ ففي 21 ديسمبر من كل عام تتعامد الشمس على معبد قصر قارون بالفيوم وعلى معبد الكرنك بالأقصر في مشهد متزامن يستمر قرابة 25 دقيقة.

كما تشهد كنيسة الملاك ميخائيل بكفر الدير بمحافظة الشرقية تعامدًا فريدًا مرتين سنويًا: 1 مايو على مذبح القديس مارجرجس و19 يونيو على مذبح الملاك ميخائيل، ما يعكس تلاحم الرمزية الدينية والفلكية في التراث المصري.

تجسيد الظاهرة بالمتحف المصرى الكبير

استلهم فريق المهندسين والأثريين بالمتحف المصرى الكبير هذه الظاهرة، فقاموا عام 2021 بتصميم تمثال الملك رمسيس الثانى فى البهو العظيم بحيث تتعامد الشمس على وجهه فى 21 فبراير و21 أكتوبر، في محاكاة مدهشة لظاهرة أبو سمبل الأصلية.

رمسيس الثانى.. بطل الحرب والسلام

قاد رمسيس الثاني أعظم معارك مصر ضد الحيثيين فى معركة قادش (1274 ق.م.)، وانتهت أولى مواجهات القوى العظمى فى التاريخ بمعاهدة سلام دائمة عام 1258 ق.م.، تُعد الأقدم فى تاريخ البشرية.

شيّد الملك أكثر من 60 نصبًا وتمثالًا ومعبدًا، أبرزها الرامسيوم ومعبدا أبو سمبل، إلى جانب مسلاته الشهيرة التى تزين اليوم ميدان الكونكورد بباريس ومعبد الأقصر، شاهدًا على عظمة ملكٍ جمع بين السيف والعلم والفن.

عبقرية المصري القديم تتجدد كل عام

ظاهرة تعامد الشمس على وجه رمسيس الثانى ليست مجرد حدث فلكي، بل تجسيد لعبقرية الإنسان المصرى القديم الذى جمع بين الإبداع المعمارى والدقة العلمية فى تناغم يربط الحضارة بالتاريخ، والعلم بالروح، لتظل مصر — كما كانت دائمًا — شمسًا لا تغيب عن وجه العالم.