في مشهد غريب لا يليق ببيت الحريات ولا بمن يرفع شعار الدفاع عن الحقوق، نجد نقابة الصحفيين – التي يفترض أنها ميزان العدالة والضمير المهني – تتجمل أمام الكاميرات، وتنتفض بكامل مجلسها نصرةً لحقوق العاملين بجريدة الوفد، بينما في الوقت ذاته تغلق أذنيها وتصمّ مجلسها عن سماع أنين العاملين داخل النقابة نفسها!
ما الذي جرى لبيت الصحفيين؟! كيف تحولت نقابة كانت تُعلِّم المؤسسات معنى العدالة والمهنية، إلى نموذج فجّ في الازدواجية والتناقض والكيل بمكيالين؟
مجلس نقابة الصحفيين الحالي — وبكل أسف — لم يكتفِ بتضييع البوصلة، بل أصبح يعيش حالة “انفصام مؤسسي” واضحة:
يندفع ببيانات رنانة وعبارات إنشائية يدّعي بها الدفاع عن حقوق الصحفيين، بينما يده ترتجف حين يتعلق الأمر بحقوق العاملين داخل النقابة نفسها!
مجلس اللقطات.. لا مجلس النقابة!
لقد صار همّ هذا المجلس أن “يأخذ اللقطة”، أن يظهر في مشهد المساند والمُنقذ، أن يتصدر عناوين المواقع بكلمات جوفاء عن العدالة الاجتماعية، بينما هو في الواقع يمارس أبشع صور الظلم على موظفي النقابة نفسها.
دافعوا باستماتة عن زملاء جريدة الوفد – وهذا حق مشروع – وموقفٌ محترم… نعم، لكنه سرعان ما فقد بريقه حين اصطدم بحقيقة مؤلمة .. فهم في الوقت ذاته دهسوا حق العاملين بنقابتهم بالأقدام.
فالعاملون بها لم يتقاضوا العلاوة القانونية المستحقة منذ يوليو 2025، ولم يُفعَّل الحد الأدنى للأجور حتى تاريخه، رغم أنه واجب التطبيق منذ أول سبتمبر، بموجب قانون العمل رقم (14) لسنة 2025 ، بالرغم من أن المجلس أصدر بنفسه بيانًا يطالب كل المؤسسات بتطبيقها فورًا، موقعًا بتوقيع “نقيب الصحفيين” والسكرتير العام!
كلام جميل.. وكلام معقول.. كما غنّت ليلى مراد.
أي وقاحة مؤسسية هذه؟!
أية ازدواجية تليق بنقابةٍ يفترض أنها ضمير المهنة؟!
من نقيب الصحفيين إلى “نقيض الصحفيين”
النقيب الذي تصدر بياناته الجادة والمحاضرات الوعظية عن “العدالة” و“مراعاة الغلاء” و“تسوية الدرجات المالية” للزملاء، لم يجرؤ على تطبيق هذا الكلام داخل النقابة التي يترأسها.
لقد أصبح بحق نقيضًا للنقيب.. نقيضًا لرسالته.. ونقيضًا للضمير الذي من المفترض أن يحمله.
فهل النقيب يجهل أن العدالة لا تُقسم نصفين؟
هل يعتقد أن القانون الذي يُلزم المؤسسات الخاصة بتطبيق الحد الأدنى للأجور، لا يُلزم النقابة التي تمثل الصحفيين؟
أم أن “القانون” يُستخدم عندهم حسب المصلحة والمشهد الانتخابي؟
نقابة تدّعي الدفاع عن الصحفيين.. وتظلم أبناءها!
المجلس الذي يُطالب المؤسسات الصحفية بـ7 آلاف جنيه كحد أدنى، عاجز عن أن يدفع موظفي النقابة ما يستحقونه.
أي منطقٍ هذا؟ وأي مصداقية تبقى بعد هذا التناقض المخجل؟
العاملون بالنقابة ليسوا مواطنين من الدرجة الثانية، بل هم العمود الفقري الذي يحمل هذا الكيان على أكتافه.
يخدمون الأعضاء، يسهرون على مصالحهم، يواجهون الجمهور والغضب، بينما يجلس “السادة أعضاء المجلس” في مكاتبهم الوثيرة يتبادلون التصريحات والابتسامات أمام الكاميرات.
الكيل بمكيالين.. والعدالة الانتقائية
مجلس النقابة الحالي، للأسف، بات يُتقن فنّ الظهور الإعلامي أكثر من إدارة بيت الصحفيين.
يتحدث كثيرًا عن “الكرامة المهنية” و”العدالة الاجتماعية”، لكنه في الممارسة يَكيل بمكيالين:
مكيالٌ للصحفيين في الخارج حيث تلمع الكاميرات، ومكيالٌ آخر للعاملين بالنقابة الذين يديرون شئونها في صمت، يخدمون الجميع بلا شكوى ولا كلل.
حين خرج العاملون بجريدة الوفد للمطالبة بحقوقهم، تداعت النقابة كلها مساندةً لهم، ووقفت شامخة تحت الأضواء، وتحدثت عن الكرامة وحقوق العاملين.
وحين طالب العاملون داخل النقابة بحقوقهم، تحول المجلس إلى صخرة صماء لا تنطق ولا تسمع ولا ترى.
العاملون بنقابة الصحفيين ليسوا من كوكب آخر، هم بشر مثل الصحفيين في الوفد، يعانون نفس الغلاء ونفس الأعباء المعيشية.
هل المطلوب أن يعتصم موظفو النقابة أمام مكتب النقيب؟
هل عليهم أن يُضربوا عن العمل لتتحرك مشاعر العدالة التي تجمدت داخل المجلس؟
فلماذا تُمارَس العدالة الانتقائية؟ ولماذا يُكافَأ الصمت بالتجاهل، بينما تُكافَأ الضوضاء بالاستجابة؟
بيت الحريات.. بلا حرية داخلية!
إن النقابة التي لا تُطبق العدالة في بيتها، لا تملك أن تعظ بها الآخرين.
والمجلس الذي لا يعرف المساواة بين أبنائه، لا يحق له أن يتحدث باسم الصحفيين.
أنتم تتحدثون عن “ضمير المهنة”، بينما ضميركم المهني في إجازة مفتوحة!
عودوا إلى رشدكم .. واتقوا الله
نقولها صريحةً لمجلس النقابة:
عودوا إلى جادة الصواب
اتقوا الله في قراراتكم، وكونوا قدوة لا عبئًا.
لقد سقطت الأقنعة.
والسؤال الآن:
هل ستظل نقابة الصحفيين تمارس دور “الواعظ الخارجي” الذي يطالب المؤسسات بما لا يلتزم به في الداخل؟
أم سيخرج المجلس من غيبوبته، ويواجه الحقيقة المرة، ويعيد الاعتبار للعاملين الذين أهملهم بصورة مهينة ومؤلمة؟ .. وأن يُزال هذا العار الإداري المتمثل في الكيل بمكيالين!!.
الحقوق لا تُجزأ، والعدالة لا تعرف “اللقطة الإعلامية”، بل تُعرف بالصدق في الممارسة.
كفى ازدواجية
كفى تصريحات منمقة وقرارات انتقائية.
طبقوا القانون داخل نقابتكم أولًا، قبل أن تطالبوا به غيركم، وقبل أن تفقد النقابة احترامها ووزنها المعنوي.
فما يحدث الآن ليس دفاعًا عن الصحفيين.. بل مهزلة تسيء إلى النقابة وتاريخها واسمها العريق.
إن كنتم نُقباء فعلاً، فأعيدوا للحق هيبته داخل النقابة..
فإما أن تكون النقابة بيتًا للعدل والمساواة، أو تتحول إلى مجرد منصة خطابة تبحث عن تصفيق مؤقت.
وإن عجزتم، فلتتركوا مقاعدكم لمن يملك الشجاعة أن يطبق ما ينادي به.
إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت .. وما توفيقى إلا بالله .. عليه توكلت وإليه أنيب .. وعلى الله العلى القدير قصد السبيل



