رغم صغر مساحتها وحداثة نشأتها تضم إسرائيل ما يقرب من 300 متحف بينها نحو 40 متحفًا رسميًا وهي بذلك من أكثر الدول كثافة بالمؤسسات المتحفية نسبة إلى عدد السكان ويأتي في مقدمة هذه المتاحف «متحف إسرائيل» بالقدس الذي أُسس عام 1965م ليصبح المتحف الوطني لدولة الاحتلال ولكن ماذا خلف هذه الواجهة الثقافية اللامعة؟
يجيب على هذا السؤال الدكتور قاسم زكى أستاذ الوراثة المتفرغ بكلية الزراعة بجامعة المنيا وعضو اتحاد كتاب مصر موضحًا أن هناك قصة أكثر تعقيدًا تتعلق بموقع هذا المتحف على خريطة نهب التراث الإنساني وتحديدًا الآثار المصرية التي تتصدر كثيرًا من قاعاته سواءً من خلال المعروضات الرسمية أو المقتنيات التي وصلت بطرق غير مشروعة وتثير هذه القضية العديد من التساؤلات خاصة في ظل غياب اتفاقية ثنائية تنظم استعادة الممتلكات الثقافية المهربة
لا تتوفر إحصاءات دقيقة بشأن عدد القطع الأثرية المصرية الموجودة في إسرائيل لكن زار بعض الأثريين المصريين متحف إسرائيل بالقدس وعاينوا بأنفسهم عددًا كبيرًا من القطع الأصلية من بين هذه المعروضات تماثيل للمعبودة المصرية “باستت” وبجانبها الإله “جحوتي” بالإضافة إلى خناجر وسكاكين وثلاثة سيوف من بينها سيف «منجلي» نادر يشبه ما عُثر عليه في مقبرة توت عنخ آمون
كما توجد مركب مصري صغيرة وتماثيل لخادمين وصانع بيرة ومجموعة من الأوشابتي والأقنعة الجنائزية ولوحات من كتاب الموتى ونسخة رائعة من لعبة “السينيت” المصرية القديمة.
ويوضح الدكتور قاسم زكى أن هذه المقتنيات لا تشكل مجرد عرض بصري للزائر بل تمثل إحدى أدوات الاحتلال الناعمة لتثبيت وجوده التاريخي في المنطقة وخلق سردية حضارية موازية تدعي التواصل مع جذور الشرق القديم وعلى رأسها مصر


إسرائيل وتجارة الآثار
المفارقة أن القوانين الإسرائيلية لا تُجرّم تجارة الآثار بل تسمح ببيعها وشرائها داخل البلاد وبما أن إسرائيل لم توقع على اتفاقية اليونسكو لعام 1970 الخاصة بمنع الاتجار غير المشروع في الممتلكات الثقافية فإن ذلك يفتح المجال لنهب واسع النطاق لا تجد فيه الآثار المصرية حماية قانونية كافية.
وقد تحولت إسرائيل إلى سوق دولي مفتوح لبيع الآثار المصرية سواءً عبر المزادات أو المحال أو المجموعات الخاصة، ويؤكد خبراء الآثار أن العديد من القطع خرجت من مصر خلال فترات الانفلات الأمني لا سيما بعد 25 يناير 2011 لتجد طريقها إلى تل أبيب والقدس وقد تمكنت السلطات المصرية بجهود دبلوماسية مكثفة من استرداد بعض القطع كان من أبرزها تابوتان أثريان تم استعادتهما عام 2016 بعد ظهورهما في مزاد علني بإسرائيل.
وفي واقعة أخرى أعلن وزير الخارجية الإسرائيلي ورئيس الوزراء ألأسبق وزعيم المعارضة منذ 2023 “”يائير لبيد” عام 2022 عن تسليمه لمصر مجموعتين أثريتين: الأولى تضم 95 قطعة مصرية من بينها تماثيل وأوشابتي ولوحات جنائزية والثانية تم ضبطها في إحدى صالات المزادات بالقدس
. موشيه ديان ونهب سيناء
ينوه الدكتور قاسم زكى إلى أن التاريخ يسجل أسماء بعض الشخصيات السياسية والعسكرية الإسرائيلية التي كانت وراء أكبر عمليات سرقة للآثار المصريةخاصة خلال فترة احتلال سيناء (1967م–1982م). ولعل الجنرال موشيه ديان هو أشهر هؤلاء، فقد قاد حفريات سرية ونهب عشرات القطع من مواقع أثرية أبرزها معبد “سيرابيط الخادم” في جنوب سيناء كما يحتفظ متحف إسرائيل بعدد من القطع التي جُمعت خلال تلك الحقبة بعضها ما زال يعرض حتى اليوم دون أي توثيق رسمي لمصدره أو طريقة خروجه من مصر.
وقد وثّق كتاب “الآثار المصرية المستردة من إسرائيل” إصدار المجلس الأعلى للآثار تفاصيل معقدة عن جهود مصر لاستعادة هذه القطع، والتي استمرت لأكثر من عشر سنوات وأسفرت عن استرداد نسبة كبيرة منها وهناك أدوار عظيمة في قصة الاسترداد للدكتور محمد عبد المقصود أمين عام المجلس الأعلى للآثار الأسبق والدكتور عبد الحليم نور الدين التي عادت الآثار في عهده وترأس اللجنة التي تسلمت الآثار في دولة الاحتلال نفسها وشارك بها الدكتور محمد عبد المقصود والأستاذ عبد الله العطّار رئيس قطاع الآثار الإسلامية السابق وكل ذلك تحت رعاية الفنان فاروق حسنى وزير الثقافة وكانت تبعية المجلس الأعلى للآثار لوزارة الثقافة في ذلك الوقت
“آثار الخروج“
يشير الدكتور قاسم زكى إلى ارتباط اهتمام إسرائيل بالآثار المصرية بمحاولة إثبات ما يُعرف بـ”آثار الخروج” لرحلة بنى إسرائيل في سيناء بعد خروجهم من مصر قاصدين فلسطين أرض العرب الكنعانيين حيث نفذت البعثات الإسرائيلية أكثر من 35 حملة تنقيب في مناطق متعددة من سيناء شملت مواقع مثل “عين القديرات” و”الكونتيلّا”، بحثًا عن أدلة أركيولوجية تدعم السردية الدينية اليهودية.

ويلاحظ أن أي اكتشاف أثري مصري في المنطقة يقابل باهتمام استثنائي من الباحثين الإسرائيليين، الذين يسارعون إلى تفسيره في إطار روايات التوراة حتى دون وجود دليل علمي قاطع ويؤكد بعض المؤرخين أن الآثاريين الإسرائيليين سبقوا جنودهم إلى سيناء إذ بدأت عمليات المسح الأثري منذ العدوان الثلاثي عام 1956م واستمرت بشكل مكثف بعد نكسة 1967م.
متاحف تحت الاحتلال:
إن قصة متحف إسرائيل في القدس ليست مجرد قصة متحف يعرض تحفًا فنية وأثرية من مصر القديمة بل هي نموذج لنهب منظم للهوية الثقافية والحضارية تُمارس فيه القوة الناعمة للاحتلال بغطاء ثقافي وأكاديمي وتبقى استعادة هذه الآثار مسؤولية وطنية وتاريخية لا ينبغي التفريط فيها خاصة في ظل محاولات البعض طمس الذاكرة المصرية وإعادة صياغة التاريخ بأدوات غير نزيهة.



