-
بين ضباب السادات وبيان الأدباء.. كيف كتب توفيق الحكيم وثيقة الغضب؟
-
مكرم لم يقبض ثمن الطباعة.. والسادات وصف البيان بـ”الهباب”!
-
حين قابل الحكيم السادات.. “كنتُ وكيل نيابة لا متهمًا”
-
من العريضة إلى العناق.. كيف انتهى الخلاف بصورة على صفحات الصحف؟
-
قصة غضب الراعي وتردد الشرقاوي ودهشة هيكل وموقف السباعي
-
حين قال السادات: “أنت رأس الحكمة.. لا رأس البلاء”
-
من “بيان العريضة” إلى نصر أكتوبر.. الأدباء كانوا على خط المواجهة
في ذكرى رحيل الأديب الكبير توفيق الحكيم، نستعيد واحدة من أكثر محطات حياته جرأة وإثارة للجدل: قصته مع الرئيس أنور السادات، التي بدأت بـ”عريضة احتجاج” على حالة اللاسلم واللاحرب، وكادت تتحول إلى أزمة سياسية، قبل أن تنتهي بلقاءٍ تاريخي جمع بين رجل الفكر ورأس الدولة.
عريضة الغضب.. كيف كتبها الحكيم؟
كانت مصر – عقب نكسة 1967 – تعيش في دوامة من اليأس، بينما وعد السادات بـ”عام الحسم”، ليفاجأ الجميع بعد ذلك بتصريح غريب: “الضباب منع الحرب”، وهي عبارة تحوّلت إلى نكتة شعبية تختزل الإحباط الوطني.
وسط هذا المشهد، تحرّك الضمير الثقافي للأمة، وقرر توفيق الحكيم أن يكتب بيانًا وقّعه عدد من أبرز أدباء مصر، ينتقد فيه الأوضاع الراهنة ويدعو الرئيس إلى مصارحة الشعب أو التنحي إذا كان عاجزًا عن اتخاذ قرار الحرب. البيان لم يخلُ من لهجة حادة، وصلت إلى حد القول إن “البلاد في حالة قرف”، وإنه لا معنى لإرسال شباب الجامعات إلى الصحراء ما دامت الحرب غير قائمة.
خلافات بين الأدباء.. و”العريضة” تنتشر في بيروت
رغم موافقة عدد كبير من الأدباء على التوقيع، أبدى البعض تحفظًا مثل الدكتور لويس عوض، فيما رفض آخرون كعبد الرحمن الشرقاوي. وتطور الأمر بعد أن نُشرت العريضة في بيروت بصياغة مثيرة تحت عنوان: “أدباء مصر وكتابها ضد السادات”، مما أغضب الرئيس بشدة، خاصة أنه اعتبر البيان نوعًا من “الهباب” – على حد وصفه – وحمّل وزير إعلامه د. عبد القادر حاتم مسؤولية التسريب.










مواجهة مباشرة.. السادات يستدعي الحكيم
أدرك السادات أن احتواء الأزمة يتطلب لقاء مباشرًا مع كاتب العريضة، فطلب لقاءً مع توفيق الحكيم برفقة وزير الإعلام. وكان الحكيم حريصًا على ألا يظهر في موقف المتهم، بل بدأ الحديث موضحًا أن البيان نابع من إحساس المثقفين بمسؤوليتهم تجاه الوطن في وقتٍ بالغ الدقة.
فاجأ السادات الحكيم بموقف هادئ، وعاتبه فقط على فقرة “القرف”، موضحًا أن ما يُظنّ أنه تهاون، كان في الحقيقة استعدادًا سريًا لمعركة مصيرية، وأن كشف خطط الحرب للشعب كان سيُفيد العدو. تحدث السادات عن ثقته بالجندي المصري، وأشار إلى أن الدولة لن تدخل الحرب إلا وهي مستعدة تمامًا، وكان صادقًا في وعده، كما أثبتت الأيام.
من الخصام إلى الاحترام.. وإنصاف الأدباء
بعد اللقاء، طالب توفيق الحكيم بإعادة الأدباء الذين عوقبوا بسبب توقيعهم على العريضة، وعلى رأسهم د. علي الراعي. إلا أن السادات اشترط “الاعتذار”، وهو ما رفضه الحكيم مؤكدًا أنه يتحمل المسؤولية كاملة. فرد السادات قائلاً: “بل أنت رأس الحكمة”.
ونُشرت صورة الحكيم مع السادات في الصحف، لتُنهي الجدل وترد على ما تداولته الصحف العربية والأجنبية عن “مواجهة بين أدباء مصر والسلطة”. حتى الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر سأل عن مصير الحكيم بعد أزمة البيان، فجاءه الرد بصورة اللقاء مع السادات.
موقف نبيل.. وتوبة فكرية
رغم كل ما حدث، اعترف توفيق الحكيم في ما بعد أنه ظلم السادات. وكتب مقالًا يشيد فيه بالرئيس الذي “رد الكرامة لمصر وللعرب” في حرب أكتوبر المجيدة. وكانت كلماته مصدر إلهام لأغانٍ وطنية مجّدت الانتصار.
ولم يكن هذا الاعتراف مجرد لحظة إنصاف، بل كان إعادة نظر فكرية، أكدت أن المثقف، حين يُخطئ، يمتلك شجاعة الاعتذار، ولو ضمنيًا.
ما بعد البيان.. محاولة لمداواة الجراح
ظل د. علي الراعي أحد ضحايا تلك العريضة، ولم يُنصف إلا بعد سنوات. وقد نجح صاحب هذا السرد – وهو صحفي حاور الحكيم – في جمع الحكيم والراعي بعد خمسة عشر عامًا من البيان، في لقاءٍ إنساني دام ثلاث ساعات، أعلن فيه الراعي تحمّله كامل المسؤولية، ليُزيح عبء الشعور بالذنب عن الحكيم، وينهي آخر فصل في قصة فريدة من نوعها جمعت السياسة بالفكر، والأدب بالقرار، في لحظة فارقة من تاريخ مصر.
قصة توفيق الحكيم مع الرئيس أنور السادات تظل نموذجًا لصراع العقول والسلطة، ومثالاً على كيف يمكن أن يكون المثقف جزءًا من معادلة القرار، حتى لو اصطدم ببعض مفرداته. وبين “عريضة الغضب” و”صورة التصالح”، جسّد الحكيم دور المثقف النبيل، الذي يخطئ أحيانًا، لكنه لا يتنازل عن شرف الكلمة.
سعيد جمال الدين



