
على شاطئ النيل بين شرايين القاهرة، يقف مبنى مجلس قيادة ثورة 23 يوليو صامدًا في وجه الزمن، كأحد أبرز المعالم التاريخية والسياسية التي صنعت ملامح مصر الحديثة. هذا المبنى، الذي شهد لحظات مصيرية وقرارات غيّرت وجه الوطن، تحوّل منذ عام 1996 إلى متحف يروي تاريخ الثورة ومقتنياتها، لكن المفارقة الكبرى أنه لا يزال خارج خريطة المزارات السياحية الرسمية، وغائبًا عن برامج شركات السياحة رغم ما يحمله من قيمة استثنائية.
من استراحة ملكية إلى قلب الثورة
شُيّد المبنى عام 1949 على الطراز اليوناني القديم، ليكون استراحة للملك فاروق ومرسى لليخوت الملكية على مساحة 3200 متر مربع، وبتكلفة بلغت 118 ألف جنيه. ولم يكد عام 1951 يرحل، حتى أصبح هذا المكان التاريخي مقرًا لمجلس قيادة ثورة 23 يوليو، حيث أُذيع منه بيان الثورة، وعاش فيه الزعيم جمال عبد الناصر لحظات فارقة مثل مواجهة عدوان 1956، وصدور أولى قرارات التأميم والإصلاح الزراعي، وخرجت منه جنازته عام 1970.
متحف الثورة.. كنز وطني مهمل تسويقيًا
منذ قرار الرئيس الأسبق حسني مبارك عام 1996، تحوّل المبنى إلى متحف قومي يوثق الثورة ومقتنياتها، ويضم اليوم 1186 قطعة نادرة، بينها:
-
الميكروفون الأصلي الذي أذاع منه الرئيس السادات بيان الثورة.
-
أول علم رُفع على أرض سيناء بعد العبور في 1973.
-
صور ولقطات نادرة للزعيمين عبد الناصر والسادات.
-
تماثيل وهدايا وطوابع بريدية ووثائق أصلية لقرارات الثورة.
ورغم ذلك، لا نجد للمتحف أي ذكر في الكتيبات السياحية، أو في خرائط جولات الزائرين للقاهرة، ولا تدخله الوفود الأجنبية إلا في مناسبات بروتوكولية نادرة.
لماذا يغيب عن السياحة؟
رغم الجهود التي بُذلت في ترميم المبنى وتحويله إلى متحف يليق بعظمة اللحظة التاريخية، إلا أن هناك غيابًا شبه تام للترويج له ضمن مسارات السياحة الثقافية والتاريخية، سواء في برامج الشركات السياحية المحلية أو الرحلات المدرسية والجامعية، أو زيارات الوفود العربية والأجنبية.
وهنا يطرح التساؤل نفسه:
لماذا لا يتم إدراج مبنى قيادة الثورة ضمن برامج زيارة القاهرة التاريخية؟
أليس أولى أن يتعرف الزائرون على الموقع الذي انطلقت منه مصر نحو الجمهورية والعدالة الاجتماعية؟
ألا يستحق أن يكون محطة دائمة في زيارات الوفود الرسمية وطلاب الجامعات؟
نُخَب ثقافية صنعت التحول.. ولم تُكرم بما يليق
يُحسب لثورة يوليو أنها أفرزت رموزًا ثقافية شكلت وعي الأمة، من أبرزهم:

د. ثروت عكاشة: وزير الثقافة الأشهر، صاحب نهضة أكاديمية الفنون وقصور الثقافة ومشاريع الصوت والضوء وإنقاذ معابد النوبة، وعضو اليونسكو البارز.

- الدكتور أحمد قدرى
د. أحمد قدري: رئيس هيئة الآثار السابق، مهندس إنقاذ آثار القاهرة الإسلامية، ومؤسس لمفهوم المزارات الأثرية في قلب العاصمة.
لكن، مثلما تم تهميش المبنى، لم يُستثمر إرث هؤلاء في إحياء الروح الوطنية من خلال المتحف، أو تقديمه كمزار ثقافي شامل.

دعوة لإحياء الموقع سياحيًا وثقافيًا
إن إعادة إدراج مبنى مجلس قيادة الثورة على خريطة السياحة الثقافية والتاريخية ليس مجرد مطلب تنظيمي، بل هو ضرورة وطنية لتعزيز الانتماء، واستثمار كنز موجود بالفعل في قلب العاصمة.
وحتى يتحقق ذلك، نوصي بـ:
-
تضمين المبنى ضمن برامج زيارات طلاب المدارس والجامعات.
-
إدراجه في برامج الشركات السياحية المحلية والدولية.
-
دعوة الوفود الأجنبية للاطلاع على إرث الثورة ومراحل التحول الوطني.
-
إنتاج أفلام وثائقية وتطبيقات رقمية تحاكي أحداث الثورة من داخل المتحف.
-
تنظيم فعاليات سنوية أو معارض مؤقتة داخل المبنى لإعادة تسليط الضوء عليه.
متى يُعاد الاعتبار لذاكرة الجمهورية؟
مبنى قيادة الثورة ليس مجرد حائط وسقف، بل هو شاهد تاريخي على ولادة الجمهورية المصرية الحديثة. وبينما تُسابق دول العالم الزمن لصناعة ذاكرة مصطنعة للسياحة، نحن نمتلك الذاكرة والحدث والمكان… ونُهمله!
فهل تتحرك وزارة السياحة والآثار وقطاع الشركات لتنشيط هذا المسار؟
وهل نرى قريبًا زيارات منظمة للمتحف ضمن رحلات القاهرة؟
ربما حان وقت الإجابة.



