في لحظة حاسمة لا تُنسى من حياتي، وجدت نفسي أشرح تاريخ قلعة صلاح الدين بجزيرة فرعون بطابا إلى جورج بوش الأب – وكان حينها نائبًا للرئيس الأمريكي – وإلى جلالة الملك حسين عاهل الأردن الراحل، برفقة زميلي العزيز الأستاذ خالد عليان. لم يكن الأمر مرتبًا، بل جاء من تدابير الأقدار، تمامًا كما قادتني زلة لسان إلى العمل في سيناء قبلها بأيام.
بداية الرحلة: 60 جنيهًا و”زلة لسان”
عام 1986، تم التعاقد معي ومع زميلي الأستاذ خالد عليان والدكتور جمال سليمان للعمل بهيئة الآثار المصرية، وكان أجرنا الشهري 60 جنيهًا، في وقت كانت فيه تكلفة المواصلات إلى طابا وحدها تصل إلى 40 جنيهًا.
دخلت إلى مقر رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية، الدكتور فهمي عبد العليم رحمه الله، لتحديد مكان عملي. كنت أنوي أن أطلب منطقة في القاهرة، لكني فجأة قلت دون قصد: “سيناء”. انتفض الرجل فرحًا، وكأنما كان بانتظار هذا الطلب طيلة حياته، وأعلن: “أدي الرجالة اللي أنا مستنيهم من زمان”.
مواجهة أولى مع مدير عام سيناء
في أثناء النقاش، دخل الأستاذ أحمد حجازي، مدير عام سيناء حينها، وقال مستنكرًا: “يعني يوم ما تجبلي حد يا دكتور فهمي تجبلي شوية عيال؟” فاشتعلت بداخلي الكرامة الصعيدية، ورددت متحديًا: “إحنا موافقين على سيناء بأي أجر”. فكان القرار: إلى طابا.

البيت الأزرق: قلعة على الشاطئ المصري
كان مقر عملنا يسمى “البيت الأزرق” نسبة إلى استراحة ضخمة أقيمت من الخشب أمام قلعة صلاح الدين، تم إنشاؤها بجرأة وطنية من الدكتور أحمد قدري، رئيس هيئة الآثار وقتها وأحد الضباط الأحرار. كان المكان هو كل شيء: مكتب، مضيفة، استراحة، ومنارة إنارة للمنطقة.
استقبلنا هناك الأستاذ حامد حسين، مفتش المنطقة، ثم ودّعنا بقوله: “هذه القلعة موقع عملكم.. مساكم الله بالخير”، دون تفاصيل إضافية!
في قلب الصحراء: لا اتصال.. لا ماء نقي.. ولا حماية
لم يمضِ وقت طويل حتى علمنا أن مياه الشرب هي مياه تحلية بحر ملوثة، والاتصالات معدومة، والعقارب والثعابين شركاء يوميين لنا. وأدركنا أن العمال الذين يعملون معنا يتقاضون 15 جنيهًا يوميًا، بينما نحن نحصل على جنيهين فقط! فلم نجرؤ على البوح بذلك.
الزيارة المفاجئة: جورج بوش والملك حسين في القلعة
في اليوم التالي مباشرة، فوجئنا بجندي من المسطحات المائية يخبرنا أن نائب الرئيس الأمريكي جورج بوش والملك حسين في الجزيرة ويريدان شرحًا عن القلعة. لم نكن قد دخلناها بعد! فاضطررنا لعبور خليج العقبة بقارب مطاطي هش، وسط اعتراض ضابط أمن الدولة.
وبعد إثبات هويتنا، انتقلنا إلى القلعة وبدأنا في الشرح بما تعلمناه نظريًا فقط. وعند صهريج المياه الخارجي، أنهى الملك الجولة قائلاً: “شكرًا جزيلًا، سنكمل جولة حرة”. والتقط لنا ضابط أمن الدولة صورة أثناء الشرح، ما زلنا نحتفظ بها حتى اليوم.
معجزة العقرب.. والمواقف التي تصنع الرجال
بعد أيام، جلست ذات مرة في “البيت الأزرق” أحتسي الشاي، ثم نهضت قليلًا وعدت لأجد زملائي قد قتلوا عقربًا كان تحت مقعدي! كانت تلك رسالة من السماء: أن البقاء في هذه الأرض يحتاج إلى حماية إلهية.
من قلاع طابا إلى تسجيل سانت كاترين تراثًا عالميًا
هكذا بدأت رحلتنا في طابا، وتوالت سنوات من العمل الجاد في الترميم، والحفائر، والتوثيق العلمي، حتى شاركنا لاحقًا في تسجيل منطقة سانت كاترين ضمن التراث العالمي. وما زلنا نسير على هذا الطريق، نمضي مع الحياة وتُمضي بنا، مستمسكين بأملنا وإرادتنا في خدمة تراثنا، حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
صورة خالدة.. ورسالة مستمرة
إنها صورة واحدة التقطها ضابط أمن الدولة في جزيرة فرعون بطابا، تختصر رحلة عمر، وتوثق موقفًا خلدته الذاكرة والتاريخ، وستبقى تذكرنا بأن الجرأة في حب الوطن، تبدأ أحيانًا بزلة لسان!



