يحمل كل منا في وجدانه ذكريات أيام جميلة مرت بحياته، يستعيدها، دوماً، لما تحمله من اعتزاز وفخر، سواء كانت على الصعيد الشخصي، أو العملي. أما أنا، فسيظل أجمل أيام عمري، دائماً وأبداً، هو يوم السادس من أكتوبر من عام 1973، عندما هاجمنا خط بارليف، واستعدنا سيناء الحبيبة، بعد ست سنوات من رؤية العلم الاسرائيلي يرفرف على الضفة الشرقية، بينما أنا متمركزاً على الضفة الغربية، في دفاعاتنا، خلال حرب الاستنزاف، متطلعاً ليوم تحرير الأرض، والانتصار على العدو الصهيوني.
أما ثان أجمل أيام حياتي، فكان يوم أن أنهيت دراستي في كلية كمبرلي الملكية، كأول ضابط مصري يعود للدراسة بالمملكة المتحدة، بعد عشرين عام من إيقاف البعثات الدراسية إليها، رداً على موقف بريطانيا من ثورة 1952، وجاء يوم التخرج، وقد حصلت على تقدير امتياز، وتم تعييني مدرساً بالكلية، كأول عضو هيئة تدريس، بتلك الكلية العريقة، من خارج حلف الناتو، فسعدت سعادة بالغة بأن كان لي شرف رفع اسم مصر عالياً.
وفي الأسبوع الماضي، أضفت لسجل أيامي السعيدة يوماً ثالثاً، بعدما لبيت الدعوة الكريمة من الأخ الدكتور أيمن الغزالي، لزيارة مستشفى 57357، ذلك الصرح الطبي العظيم، الذي يعالج الأطفال المصريين، المصابين بمرض السرطان الخبيث، بالمجان، من عُمر يوم واحد حتى سن 18 سنة، وهو ما رأيته بعيني، خلال مروري بالمستشفى، إذ رأيت من الأطفال من لم تتجاوز أعمارهم شهر واحد، وقد اختبروا، وعائلاتهم، بهذا المرض اللعين.
لم أسعد، بالتأكيد، برؤية أطفال قد أنهكهم المرض، وإنما سعدت بما عرفته عن تلك المستشفى، وهي الأكبر في العالم، من حيث الطاقة الاستيعابية، طبقاً لتصنيف منظمة الصحة العالمية، لعلاج سرطان الأطفال، بالمجان. تعالج المستشفى 15 ألف حالة، تقريباً، من سواء للمقيمين بالمستشفى أو المترددين عليها أسبوعياً، لتلقي الجرعات أو المتابعة، علماً بأن متوسط مدة العلاج للطفل الواحد، تتراوح بين اثنين إلى ثلاث سنوات، وتتكلف ما يصل إلى مليون جنيه. أما العيادات الخارجية فتستقبل نحو 600 مريض يومياً.
وطبقا للإحصائيات، فقد حققت المستشفى نسبة الشفاء، في العام الجاري، بلغت 73%، وهو ما يقترب من النسب العالمية البالغة 83%. ولما كانت المستشفى متميزة في عمليات زرع النخاع، فقد ارتفعت أعداد الغرف المخصصة لذلك من تسع غرف إلى سبعة وعشرين غرفة جديدة، أما المفاجأة ففي وجود جهاز “السيبر نايف”، وهو الجهاز الوحيد الموجود في أفريقيا، ويصنف كأحدث تكنولوجيات العالم، في استهداف ذلك المرض اللعين بدقة عالية.
وعند زيارتي للمعامل، بهرني تزويدها بأحدث الأجهزة الموجودة في أوروبا وأمريكا، وبالاستفسار عن مشكلة المعايرة، التي تواجه الكثيرين عند إجراء تحاليل الدم، مثلاً، في ثلاث معامل مختلفة، من تباين في نتائج كل معمل، عرفت أن معامل المستشفى يتم معايرتها، يومياً، باستخدام أحدث الأنظمة التكنولوجية، لضمان دقة النتائج اللازمة للتعامل مع المرضى، وهو ما ينعكس إيجاباً على نسب الشفاء. تضم المعامل تحاليل الباثولوجي لتحديد نوعية الورم، وقد نال ذلك المعمل شهادة الجودة من الكلية الأمريكية لأطباء المدن في العالم.
وخلال زيارتي للمستشفى العريق، مررت على الصيدلية الخاصة بها، فوجدتها تعمل بنظام الذكاء الاصطناعي، ومبرمجة إلكترونياً، بالكامل، بحيث يتم مراقبة كل علبة دواء يتم صرفها، وربطها إلكترونياً برقم المريض، وفقاً لروشتة الطبيب المعالج، التي تحدد الجرعة اللازمة، علماً بأن الصيدلية تتعامل، يومياً، مع ما لا يقل عن 300 مريض، يتطلبون نحو 1500 علبة دواء، يتم إدارتها من خلال منظومة إلكترونية للتخزين والصرف. هل تخيل أحدنا وجود مستشفى في مصر، لا يتعامل مرتاديها، منذ لحظة دخول الطفل المريض إليها مع أي أوراق، وإنما تحفظ كافة أوراقه، وتحاليله، وأشعته، وتقاريره المرضية في منظومة إلكترونية، من خلال الحاسبات الآلية.
جدير بالذكر أن خدمات مستشفى 57357 ليست قاصرة على الأطفال، فقط، وإنما تمتد لجموع المصريين، ممن تجاوزوا سن 18 سنة، واختبرهم الله بهذا المرض اللعين، لأن يجروا كل الفحوصات والتحليلات والأشعة اللازمة بالمستشفى، بمقابل مادي أقل من المراكز الخارجية، وهو ما يتم استخدام حصيلته في أعمال التطوير ورفع كفاءة المستشفى، للحفاظ على المستوى العالمي لخدماتها. وبالعودة للأرقام والإحصاءات، مرة أخرى، نجدها تشير لتقديم المستشفى جرعات، يومية، في الوريد بطاقة تصل إلى 2200 جرعة مضادات حيوية، وعدد جرعات الكيماوي تصل إلى ألف جرعة، وما يتخلل ذلك من تحاليل يومية، لقياس تأثير الدواء، سلباً أو إيجاباً على المريض.
أما على الجانب الإنساني، فقد لمست رقي المعاملة مع الأطفال، الذين خصصت لهم المستشفى أماكن للرسم والموسيقى والألعاب، مصنفة لفئاتهم العمرية، وحتى أنواع الطعام المقدمة لهم، فما لم يكن هناك قيوداً مفروضة على أي مريض من قِبل طبيبه المعالج، فيسمح لهم باختيار ما يتمنون من الأطعمة، ويتم تجهيزها لهم وفق رغباتهم. وامتدت المعاملة الراقية لأهالي المرضى، خاصة الوافدين من محافظات مصر وأقاليمها، فخصصت لهم المستشفى أماكن للإقامة في مبنى منفصل، للتيسير عليهم، خاصة لغير القادرين مادياً.
لقد سعدت، حقيقة، بذلك اليوم الرائع الذي شهدت فيه تقديم خدمة طبية متميزة لأطفال مصر، بالمجان، ورأيته لزاماً عليّ أن أتقدم بكل التحية والشكر للقائمين على مستشفى 57357، والعاملين بها، وأن أدعو كل مواطن للمشاركة، ولو بالقدر البسيط، في الحفاظ على ذلك الصرح الطبي العظيم، وتطويره.