علمني التاريخ أن ما يمر بالأمم من أحداث عظام لا يصح تقييمها، واستنباط نتائجها، خلال نفس فترة وقوعها، لما يشوب تلك الفترات، عادة، من اضطراب، وتباين، في الحكم على الأمور، ما بين إفراط في التأييد، أو إسراف في المعارضة، وفقاً للتجربة الشخصية للمقّيم، إن ما كان شابها الأذى أو النفع، فيخرج التقييم متطرف لأحد الجانبين.
لذا من الأفضل عدم التسرع في الحكم على تلك الأحداث، لحين استقرار الموقف، وهو ما قد يطول لعقود متتالية، حتى يصل المرء إلى رأي موضوعي، خالي من الأحكام الشخصية>
فتاريخ الأمم لا يقاس بغنيمة وخسارة شخصية، وإنما بأحكام موضوعية ترتبط بالصالح العام، وصالح السواد الأعظم.
ولقد كانت ثورة يوليو 1952، أحد تلك الأحداث العظام، في العصر الحديث، التي طالها الإفراط في النقد والمديح، منذ قيامها، حتى أثبت التاريخ عظمتها، ومآثرها، ليس على الشعب المصري، فحسب، وإنما على العديد من شعوب العالم، التي كانت تعاني ويلات الاستعمار، حينئذ، سواء في المنطقة العربية أو في أفريقيا.
وصار الرئيس جمال عبد الناصر رمزاً للشعوب والدول المتطلعة للحرية والاستقلال، حتى صار اسمه وصوره تزين أهم شوارع وميادين ومدارس المدن العربية والأفريقية، تقديراً وعرفاناً لمصر، بعد 23 يوليو، في مساعدة ومساندة الدول الأفريقية حتى تحريرها، وأسس بعدها منظمة الوحدة الأفريقية مع أثيوبيا والسودان، والتي كانت القاعدة التي قام عليها الاتحاد الأفريقي، لاحقاً، في بدايات الألفية الحالية.
شكلت ثورة يوليو مجلساً لقيادتها، ضم 13 ضابطاً، برئاسة اللواء محمد نجيب، وأعلنت عن مبادئها الستة، الشهيرة، وهي القضاء على الإقطاع، والقضاء على الاستعمار، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وبناء جيش وطني قوي، وإقامة العدالة الاجتماعية، وتأسيس حياة ديمقراطية سليمة، كانت سبباً في تحقيق العديد من الإنجازات السياسية، منها إسقاط دستور 1923، وحل الأحزاب السياسية، وإلغاء الملكية وإعلان الجمهورية في 18 يونيو ١٩٥3، برئاسة اللواء محمد نجيب، كأول رئيس للجمهورية، حتى عام 1954.
وكان أحد أهم انجازات ثورة يوليو 52، هو بناء جيش مصري قوي، ورفض هيمنة الجيش البريطاني عليه، بعد عقود من الإصرار على تحديد حجمه وعدد أسلحته، وهو ما دفع عبد الناصر للاتجاه إلى الاتحاد السوفيتي، في ذلك الوقت، وعقد صفقة الأسلحة التشيكية، لتبدأ مصر، بعدها، عهداً من العلاقات العسكرية مع الاتحاد السوفيتي، والتخلي عن الهيمنة البريطانية.
أما على الصعيد القومي، فكان أبرز إنجازاتها قيام الرئيس عبد الناصر بتأميم قناة السويس، لتعود ملكيتها لمصر، في عام 1956، ورغم أن ذلك كان سبباً في العدوان الثلاثي، على مصر، من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، إلا أن مصر نجحت في صده، وخرجت من تلك التجربة قوية عظيمة، كعهدها. ويحسب، كذلك، لثورة يوليو 1952، نجاح مصر في توقيع اتفاقية الجلاء، وخروج المستعمر البريطاني بعد 72 عاماً، ورفع علم مصر على مبنى هيئة قناة السويس.
أما على المستوى الداخلي، فنجحت ثورة 52 في إقرار مجانية التعليم في المدارس والجامعات المصرية، ونتج عنها تأسيس العشرات من الجامعات المصرية، بعدما كان عددهم ثلاث جامعات فقط، كما اهتمت بنشر الثقافة، وتم بناء قصور ثقافة، في جميع ربوع مصر، وانتعشت الحركة الفنية في مصر، سواء في المسرح أو السينما أو الغناء، وأنشئت أكاديمية الفنون، بمعاهدها المتخصصة في المسرح والباليه والسينما والنقد الفني،
كما ظهر التليفزيون المصري، بعد الثورة، ليصبح رائداً للثقافة في كل العالم العربي. وحقق أبناء التليفزيون المصري نجاحاً كبيراً في تطوير كل القنوات التليفزيونية في العالم العربي. وامتد أثر الثورة المصرية إلى تحقيق حلم العرب بأول وحدة بين مصر وسوريا، في الجمهورية العربية المتحدة، والتي رغم عدم استمرارها، إلا أن تلك التجربة كانت، ولا زالت، النواة الأولى لحلم التكامل العربي، في المستقبل.
وفي سياق متصل، يعتبر مشروع بناء السد العالي أحد العلامات الفارقة، في تاريخ مصر الحديث، وأحد مشروعاتها العملاقة، التي انعكست آثارها إيجاباً على زيادة الرقعة الزراعية في مصر، إلى واحد ونص مليون فدان، بعد تحويل الزراعة من ري الحياض إلى الري الدائم. ورغم ما واجهه مشروع السد العالي من انتقادات لاذعة، عند البدء في تأسيسه، في عام 1960،
إلا أن التاريخ أثبت، بما لا يدع مجالاً للشك، أهميته وقيمته، خلال أزمة مياه النيل، التي نشهدها، اليوم، مع أثيوبيا. كذلك حققت الثورة إنجازات في تغيير البنية الاجتماعية للمجتمع المصري، بإصدار قانون الاصلاح الزراعي، لتحرير الفلاح المصري وقضت على السيطرة الرأسمالية في مجال الإنتاج الزراعي، والصناعي كذلك، بأن وضعت مصر، لأول مرة،
الخطة الخمسية للصناعة، والتي كانت سبباً في تطوير صناعات الغزل والنسيج في المحلة الكبرى، والحديد والصلب في حلوان، والألمونيوم في نجع حمادي، وغيرهم من الصناعات التي حملت شعار “صنع في مصر”.
وكأن المصريين اشتاقوا للريادة المصرية،
مما جعل بعضهم يحمل صورة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، خلال أحداث 25 يناير، وكأنهم يمدون خطاً بين 1952 و2011، اعتماداً على الأثر الطيب لثورة 52، وهو ما كُلفت يوماً بقياسه، أثناء إدارتي للشئون المعنوية، للقوات المسلحة المصرية،
في أعقاب عرض فيلم “ناصر 56″، الذي حفز المشاعر الوطنية لدى المصريين، وخاصة بين الشباب. وبكل ما لها وما عليها، فستظل ثورة يوليو 52 علامة بارزة في تاريخ مصر وشعبها العظيم.