في ظل اشتعال الأحداث في مختلف أنحاء العالم ، وبشكل خاص في منطقة الشرق الأوسط التي أصبح علي سطح صفيخ ساخن ، تتزايد الحاجة إلي اللجوء للتحليل الإستراتيجي كوسيلة لتحليل وفهم وتوقع السيناريوهات المتعددة في ظل ذلك التعاقب المتسارع للأحداث .
وفي الوقت الذي يعتمد فيه التحليل السياسي علي دراسة وربط الأحداث السياسية في مختلف أنحاء العالم ويعتمد التحليل العسكري علي دارسة المدارس العسكرية وقوانين القتال التي تنقسم في العالم إلي مدرستين الشرقية التي تأسست على مبادئه حلف وارسو، والتي تعزمتها الاتحاد السوفيتي، وتسلمت منها روسيا الإرث .
ومدرسة الفكر العسكري الغربي لدول حلف الناتو، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية،فإن التحليل الإستراتيجي هو العلم الذي يجمع بين كلا من النوعين السياسي والعسكري .
وقد فرض التطور التكنولوجي الكبير الذي نعيشة هذا العصر ،حدوث تطور مقابل مجال التحليل الإستراتيجي خاص مع التأثر الكبير في مجال تطور مجال التسليح العسكري ومجال التحليل العسكري ومن ثم التحليل الإستراتيجي.
ففي العقيدة الشرقية، يعتمد التحليل على دراسة كافة جوانب الموقف والأوضاع والإمكانات،للخروج باستنتاج أو مقترح واحد ، على أساسه يبنى القرار … أما في العقيدة الغربية، فإن التحليل يبنى على أساس تقديم عدة أطروحات، يقابلها بدائل للحلول المتاحة، موضحاً مميزات وعيوب كل حل، وفي النهاية يقدم التحليل توصية بأنسب الحلول الممكن اتباعها.
وظل هذا المفهوم، لفترة طويلة معمول به إلى أن ظهر مفهوم آخر، أطلق عليه “التحليل الاستخباراتي”، القائم على أساس تقديم تحليلات عديدة لمتخذ القرار، لا يلتزم فيه متخذ القرار برأي واحد محدد، وإنما يسمح لنفسه بالتجول بين بدائل عدة. وهو فكر متقدم، بالطبع، ابتدعته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “CIA” ، وبدأت تعمل به كافة الأجهزة الاستخباراتية في العالم، وخاصة تلك المتعاونة مع وكالة الاستخبارات المركزية. وهذا التحليل يرضي جميع الأطراف، بنسبة كبيرة، إلا أنه يفتقر إلى التحليل الأكثر قبولاً، أو إلى رأي محدد يمكن للقائد العمل به، وهنا يصبح على القائد اتخاذ القرار الأنسب لتطبيقه.
وفي هذه الأيام، ومع تطور آليات تكنولوجيا العصر، أصبحت الحاسبات الآلية، من خلال برامج وتطبيقات متطورة، قادرة على جمع عدد هائل من المعلومات والبيانات والأرقام، وتطور الأمر لدرجة أصبحت تسمج بظهور كافة المعلومات في شكل مؤشرات بيانية، والقيام بمقارنات حسابية بينها ، تشمل فترات زمنية مختلفة، وتخرج في النهاية بنتائج محددة، بما يوفر المزيد من الجهد، الذي كان يبذل في عمليه المقارنات سواء بين البيانات الحالية أو البيانات السابقة. ومن هنا قادت مراكز الدراسات الاستراتيجية، ومراكز البحوث، فكراً جديداً يعتمد على تقديم البيانات والأرقام والأحداث من خلال سرد تاريخي للأحداث، دون الوصول إلى نتائج محددة، ويترك فيها للقارئ أو المتلقي حرية الإختيار .
ورغم المزايات الكبيرة في هذا الأمر إلا أنه في البداية واجه العدد من الإنتقادات ،لأنه لا يقود متخذ القرار إلي نتائج محددة ،وبالتالي ربما ينظر إليه علي أنه قد فشل في تقديم المشورة المطلوبة أو القيام بالدور المنوط به .
ولكن شيئاً فشيئاً، بدأ البعض يقتنع بأهمية أن يستخرج الدارس، أو القارئ، أو صانع القرار، ما يناسبه من قرار، وفقاً للتحليلات الناتجة عن المعلومات الواردة إليه. وبدأت هذه الأفكار تنتشر في العديد من مراكز الدراسات الاستراتيجية، التي تقول أن القارئ أو متخذ القرار لن يفرض عليه الرأي بعد اليوم، فأمامه المعلومات والبيانات ليدرس هو ويحلل، ولقد استهوت هذه الطريقة بعض الشباب في المجتمع الأوروبي، الذي يرفض وصاية مراكز الدراسات الاستراتيجية، أو فكر المحللين الاستراتيجيين،
وكان أبسط مثال لذلك، هو كل التحليلات التي تمت، قبل استفتاء البريطانيين، حول الاستمرار في الاتحاد الأوروبي وسوقه المشتركة، لتظهر كل التحليلات الصادرة عن مراكز الدراسات في الصحف البريطانية، التي قدمت البيانات والأرقام والإحصاءات للمجتمع البريطاني، خاصة للشباب، وتركت لهم حرية اتخاذ الرأي. وكانت الصدمة عند ظهور نتائج التصويت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وبناء عليه، أتوقع أن نرى في الأيام القادمة، العديد من المقالات التي تحمل عنوان التحليلات الاستراتيجية، والتي تعرض الموضوعات بشكل متكامل، مصحوباً بالأرقام والبيانات، وحتى خلفياته التاريخية، دون أن تنتهي إلى رأي نهائي، تاركة للقارئ حرية استنباط تحليله الشخصي …. وبهذا يكون التطور في الاعتماد على القارئ أو الدارس في مجال التحليل، وليس المنشأة أو مراكز الدراسات الاستراتيجية.
ورغم رواج ذلك الفكر الجديد بشكل كبير إلا أنه قد حدث إنقسام لدي مراكز الدراسات الاستراتيجية حول تطبيقه في بعض الحالات ، خاصة تلك المصبوغة بأبعاد سياسية واستراتيجية، وهو ما ظهر مثلا ، في معالجة المشكلة الأمريكية الإيرانية، حول انسحاب ترامب من الاتفاق النووي ١٦ ، فلجأ معظم المحللين والمفكرين، إلى عدم الوصول إلى تحليل نهاية الأحداث، وخاصة مع تصاعد الحرب الكلامية بين الطرفين، رغم العلم المسبق بتفوق القوه العسكرية الأمريكية، في حالة حدوث صدام مسلح لتأمين مضيق هرمز،
أما أجهزة صنع القرار والأجهزة الاستخباراتية في العالم، فقد سارت علي النهج القديم والخاص بتقديم الرأي التحليلي واحد أو أكثر من رأي.
أما على مستوى مجموعات معاونة القادة على اتخاذ القرار التي يطلق عليها اسم Think Tanks ، فقد رفضت تماماً هذا التطور، وظلت مصرة على تقديم حلول واقتراحات محددة وواضحة المعالم لمتخذ القرار.
وعموماً، فإن الأيام القادمة ستثبت لنا هل كل ما هو جديد مرفوض أو قد يقبل بعد حين. فتلك هي طبيعة النفس البشرية، وحتى عندما حاول البعض تطوير عمل الحاسبات الإلكترونية للاستفادة منها في تقديم حلول مختلفة، ظل ذلك محصوراً في مجال المقارنة بين الأرقام والمعدلات، مثلما حدث في فكر بحوث العمليات الذي قدمه وزير الدفاع الأمريكي في الستينات، وظل العالم يعمل به حتى الآن، ولكن في المجال الاستراتيجي سيظل العامل البشري، مهما تطورت التكنولوجيا هو أهم عناصر اتخاذ القرار وتحليله.