ما أن مرت أيام على انتصار مصر في حرب أكتوبر 73، حتى شرعت مراكز الدراسات الاستراتيجية الدولية والعالمية، في بحث الدروس المستفادة من تلك الحرب، التي غيرت، خمس مفاهيم من أساليب القتال العسكري، كان أهمها تغيير مفهوم “الدفاع المتحرك”، أو “Mobile Defense”، المعمول به في العقيدة الغربية، إلى “الدفاع المرن”، أو “Active Defense”، اعتماداً على نجاح القوات المصرية في عبور قناة السويس، وفشل الدفاع المتحرك الإسرائيلي في صدها أو إيقافها، حتى تمكنت من إنشاء رأس كوبري للعبور لمسافة 15 كيلومتر شرق القناة. أما ثاني المفاهيم التي غيرتها قواتنا المسلحة، فتمثل في قدرتها على تحييد القوات الجوية المعادية من التدخل في المعركة، وشل قدرتها على التدخل لمنع القوات المصرية من عبور قناة السويس، رغم التفوق الكمي والنوعي لسلاح الجو الإسرائيلي، حينئذ.
لم تكتف القوات المسلحة المصرية بذلك، بل رسخت لمفاهيم أخرى كان ثالثها قدرة المشاة على القتال بدون دبابات، لأول مرة في تاريخ الحروب، إذ اعتمدت قوات المشاة المصرية، في قتالها ضد المدرعات الإسرائيلية، في رأس الكوبري، على الأسلحة المضادة للدبابات، حتى تم فتح الكباري، وعبور الدبابات المصرية. أما الدرس الرابع، فركز على تحقيق المفاجأة، على كل المستويات، في تلك الحرب، فلم يتوقع العدو الهجوم المصري في ذلك التوقيت، أو بتلك الخطة التي ضمنت لنا النصر. واستُخلص الدرس الخامس مما قامت به مصر من تنسيق لإغلاق مضيق باب المندب، لتنجح في الحصار البحري للعدو عن بُعد، بمنع الملاحة الإسرائيلية، وتعطيل موانئ العدو، وهو نفس الأسلوب الذي يتبعه الحوثيون، الآن، ضد إسرائيل.
وإذا ما نظرنا إلى حرب غزة 2023، نجدها لم تغير شيئاً في مفاهيم الفكر العسكري العالمي، وإنما كانت سبباً في تغيير جوهري في المفاهيم الاستراتيجية، للجيش الإسرائيلي، في القتال، خاصة على المستوى التكتيكي. فكما استعرضت، في أحد مقالاتي الأسبوعية، مؤخراً، فقد ارتفعت خسائر إسرائيل، من الضباط، في هذه الحرب، عن المعدلات المقبولة، في كل جيوش العالم، مما دفع إسرائيل لاتخاذ قرار بإنشاء كلية حربية، لتخريج ضباط الجيش الإسرائيلي، بعدما كانت مقتصرة على اختيار الضباط من التشكيلات المقاتلة، وتدريبهم من خلال دورات متخصصة، مثل المشاة أو المدفعية أو الإشارة وغيرهم.
كما أظهرت الحرب الجارية فشل المخابرات الإسرائيلية، بأفرعها الثلاث؛ الموساد والشاباك والمخابرات الحربية (أمان)، في القيام بدورها الرئيسي في الكشف المبكر عن هجوم فصائل المقاومة الفلسطينية، فضلاً عن الفشل في الكشف عن الأسلحة الجديدة، التي استخدمتها المقاومة الفلسطينية، كالطائرات الشراعية، وما استلزمها من تدريبات مسبقة، بالإضافة إلى الفشل في تحديد مواقع ومسارات الأنفاق في غزة، حتى بعدما أكملت الحرب مائة يوم، منذ اندلاعها. وفي سياق مدة الحرب، فقد اعتادت إسرائيل، اتباع نظام الحرب الخاطفة، التي لا تطول لأكثر من ثلاثة أسابيع، نظراً لاعتماد جيشها على عناصر الاحتياط، العاملين بمختلف قطاعات الدولة. أما وقد دخلت الحرب شهرها الرابع، فقد تعرضت إسرائيل إلى أضرار اقتصادية بالغة، فضلاً عن استهلاك الذخائر بمعدلات تفوق المفترض عالمياً، ولولا الإمدادات الأمريكية لما استمرت في الحرب، حتى أنها سرحت خمس لواءات، بعد الشهر الثالث من الحرب، ليعودوا للحياة المدنية.
أما النقطة الرابعة، فكانت في اعتماد إسرائيل على استراتيجية نقل الحرب لأرض الخصم، أما اليوم، فقد دوت صفارات الإنذار في كل المدن الإسرائيلية، وتوقفت رحلات الطيران في مطار بن جوريون، وتم تهجير سكان المستعمرات السبع، في غلاف غزة، وسكان المستعمرات الشمالية، لتتذوق إسرائيل طعم الحرب، لأول مرة، داخل أرضيها. يضاف لما سبق، أن إسرائيل عاشت أكذوبة جيشها الذي لا يقهر، فإذا بها تُمنى بخسائر من الضباط والجنود، فضلاً عن فشل القوات في تحقيق أهدافها، على مدار ثلاث شهور، لذا سيتعين على الجيش الإسرائيلي تغيير أساليبه القتالية، متخلياً عن غروره، وظنه بأن التكنولوجيا المتطورة، المحتمي وراءها، هي سبب انتصاره.
أما سادس النقاط التي كشفتها الحرب في غزة، فهي ضعف الروح المعنوية بين صفوف الجيش الإسرائيلي، والتي تمثلت في رفض الجنود المصابين، لزيارة رئيس الوزراء، نتنياهو، لهم بالمستشفيات، وتجلت أكبر صور انخفاض الروح المعنوية، في احتفال جنود وضباط لواء الجولاني، أو “لواء النخبة” في الجيش الإسرائيلي، وهم يرقصون فرحاً عند مغادرة ميدان القتال، في حي الشجاعية، عائدون للخلف، بعدما تكبد لواءهم العسكري خسائر كبيرة في الأرواح والمعدات.
وما يؤكد كلامي هو تشكيل لجنة، قبل انتهاء الحرب، بتوجيه من وزارة الدفاع الإسرائيلية، للتحقيق في أسباب القصور في تلك الحرب، منذ 7 أكتوبر 2023، حيث صدر قرار تشكيل اللجنة برئاسة وزير الأمن ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق شاؤول موفاز، وعضوية الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية زئيفي فركش، والقائد السابق لقيادة الجيش الجنوبية سامي ترجمان، للوقوف على أوجه القصور، وتحديد المسئولية عنها، وعلى رأسهم نتنياهو، وقادة المؤسسات الاستخباراتية الإسرائيلية الثلاثة.
وكأن حرب غزة 2023 قد جاءت لتثبت للعالم كله حقيقة ضعف الجيش الإسرائيلي، واعتماده على آلة الحرب الأمريكية، وهو ما يتوقع معه أن يبذل هذا الجيش الكثير من الجهد، في السنوات القادمة، لرفع مستواه، بعدما يعتبر ما ألم به هزيمة نكراء، باعتباره جيش نظامي، يواجه فصائل مقاومة، ذات إمكانات عسكرية متواضعة، لكنها تتمتع بروح قتالية عالية، لإيمانها بالحق في استرداد الأرض.
كاتب المقال
اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج
Email: [email protected]
Email: [email protected]
واحداً من أهم أبناء القوات المسلحة المصرية.
ولد في 14 يناير في مدينة بورسعيد، لأب وأم مصريين.
تخرج، سمير فرج، من الكلية الحربية عام 1963.
والتحق بسلاح المشاة، ليتدرج في المناصب العسكرية حتى منصب قائد فرقة مشاة ميكانيكي.
تخرج من كلية أركان حرب المصرية في عام 1973.
والتحق بعدها بكلية كمبرلي الملكية لأركان الحرب بإنجلترا في عام 1974، وهي أكبر الكليات العسكرية في المملكة البريطانية،وواحدة من أكبر الكليات العسكرية على مستوى العالم.
فور تخرجه منها، عُين مدرساً بها، ليكون بذلك أول ضابط يُعين في هذا المنصب، من خارج دول حلف الناتو، والكومنولث البريطاني.
تولى، اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج، ، العديد من المناصب الرئيسية في القوات المسلحة المصرية، منها هيئة العمليات، وهيئة البحوث العسكرية. وعمل مدرساً في معهد المشاة، ومدرساً بكلية القادة والأركان. كما عين مديراً لمكتب مدير عام المخابرات الحربية ورئاسة إدارة الشئون المعنوية.
تتلمذ على يده العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية البارزة، إبان عمله مدرساً في معهد المشاة، ومدرساً في كلية القادة والأركان المصرية.
لم تقتصر حياته العملية، على المناصب العسكرية فحسب، وإنما عمل، سمير فرج، بعد انتهاء خدمته العسكرية، في العديد من المناصب المدنية الحيوية، ومنها وكيل أول وزارة السياحة، ورئيس دار الأوبرا المصرية، ومحافظ الأقصر. ويشغل حالياً منصب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة NatEnergy.
وله العديد من الكتب والمؤلفات العسكرية، خاصة فيما يخص أساليب القتال في العقيدة الغربية العسكرية. كما أن له عمود أسبوعي، يوم الخميس، في جريدة الأهرام المصرية ومقال أسبوعى يوم السبت فى جريدة أخباراليوم.