وجه الأستاذ الدكتور محمد الكحلاوى أستاذ الآثار والعمارة الإسلامية بكلية الآثار جامعة القاهرة، رئيس المجلس العربى للاتحاد العام للآثاريين العرب، عضو اللجنة العليا للتخطيط بمجلس الوزراء رسالة تنبيه بالخطر تحت عنوان ” تراث القاهرة المعماري بين مشروعات التطوير ومعاول التدمير
وأوضح الدكتور محمد الكحلاوى أن القاهرة التاريخية تشهد اليوم أكبر عمليات إزالة للمواقع والأحياء والمقابر التراثية تحت مسمى مشروعات التطوير، التي يتشدق بها المطورون دون فهم لطبيعة المواقع التراثية أو سابق خبرة في التعامل معها حيث أن مسمى التطوير ليس من المفردات أوالمصطلحات المعمارية التي تستخدم في التعامل مع المواقع والمباني والأحياء التراثية،
حيث من المتعارف عليه لدى المنظمات المعنية بالتراث سواءً الدولية أو الإقليمية وأهل الاختصاص أن المواقع التراثية لها مفرداتها ومصطلحاتها الخاصة بها مثل إعادة التأهيل والترميم والصيانة والحفاظ وأي مسمى أخر يختلف عن تلك المسميات المعتمدة قد ينبىء بعواقب وخيمة، منها خروج القاهرة التاريخية من لائحة التراث العالمي
وأضاف الدكتور محمد الكحلاوى إن ما يحدث الآن في المواقع التراثية في القاهرة التاريخية يعد تهديدًا كبيرًا لحاضر ومستقبل القاهرة التاريخية، وقد ناشدت فخامة السيد رئيس الجمهورية ودولة رئيس الوزراء للتدخل لوقف هذه الأعمال التي تجرى على قدم وساق في قلب أحياء القاهرة التراثية ومقابرها التاريخية، فمن الجمَّالية إلى عرب اليسار إلى قرافة السيدة نفيسة وسيدى جلال وباب الوزير والإمام الشافعي والإمام الليث وغيرها من المواقع التي اقتحمتها بلدوزرات محافظة القاهرة، لتجعلها أثرًا بعد عين بحجة أنها تشق الطرق والكباري والساحات خدمةً لتلك المناطق،
والحقيقة أنه في العالم المتحضر تشق الطرق وتنصب الكباري من أجل الوصول إلى المواقع والمباني والأحياء التراثية، وليس العكس كما يحدث الآن في القاهرة التاريخية
فتهدم الأحياء والمباني والمواقع التراثية بكل أنواعها بهدف شق الطرق وتشييد الكباري في نظمٍ وتخطيطٍ لا شية فيه من الجمال والقيم، ولا يتوافق مع خطط المدينة القديمة وأحيائها
بل جاءت طرق معلقة قطَّعت أنسجه المدينة التاريخية وحجبت بارتفاعها رؤى آثارها ومآذنها وأبراج كنائسها، وهذه سابقة ليس لها نظير في العالم ففي أوروبا تترك المدن القديمة بكامل مخططاتها
وتسن لها القوانين من أجل الحفاظ عليها وصيانتها، وما يقدم لها عبارة عن برامج إعادة تأهيل من أجل الخدمات السياحية المتدفقة عليها.
فلم نسمع أو نشاهد ثمة تطوير لشوارع روما القديمة أو جنوب إسبانيا في المدن الأندلسية التي ما زالت تحتفظ بأسمائها القديمة وتعد أكبر مزارًا سياحيًا في أوروبا يتردد عليها أكثر من 60 مليون سائح سنويًا، كذلك لم نشاهد كباري معلقة أو ساحات في لندن(Down Town) أو في باريس،
ولم تكن بلداننا العربية في معزلٍ عمَّا هو في أوروبا ففي شمال أفريقيا ما زالت فاس ومكناس ومراكش وجدة وصفاقس وقفصة، والقيروان والمهدية وتلمسان والقصبة، داخل أسوارها تنعم مبانيها بالأمان والحفاظ والصيانة ولا يجرؤ أحدًا على التعدى عليها أو يغير في معالمها التاريخية القديمة،
وفى الجزيرة العربية تصرف الملايين من أجل إعادة تأهيل المناطق والمواقع التراثية كالدرعية بمنطقة الرياض، وفى الشارقة وقطر واليمن عشرات النماذج التي تدل على صيانة التاريخ والحفاظ على الهوية
ونوه الدكتور محمد الكحلاوى إلى النماذج التي ذكرتها في أوروبا وفى عالمنا العربي عرفوا أصحابها قيمة ما يمتلكوا فحافظوا عليه، ومن أجل هذا تربعوا على عرش السياحة العالمية،
وكان أولى بالقائمين على مشروعات الهدم والإزالة بالقاهرة التاريخية أن يرجعوا إلى أرباب التخصص من المعنيين بالتراث والآثار حتى يقولوا كلمتهم ويبدوا ملاحظاتهم في أية مشروعات تخص تراثهم الوطني،
فهو ليس تراثًا ملكًا لمحافظ وإنما ملكًا للشعب المصري بأسره فقد سطر به التاريخ وسجل به مكانته عبر الأزمان.
وأردف بأن ما يحدث الآن من فك للمباني الأثرية وإعادة نظمها في إطار حديث بعيدًا عن محيطها العمراني الذي أنشئت به وبجواره أمام مسمع ومرأى من وزارة السياحة والآثار والآثاريين ولم يحرك أحدًا ساكنًا،
إن فك مسجد ومئذنة السلطان الغوري بعرب اليسار والمسبح باشا بالسيدة عائشة يعد جرمًا في حق الآثار الإسلامية
كما إن تفريغ محيط المزارات الإسلامية بعمل ساحات كبيرة على غرار ساحات الفاتيكان لا يتوافق مع مفهوم النسيج العمراني التاريخي للقاهرة أو للمدن التاريخية،
ومن الجدير بالذكر أن مثل هذه المشروعات قد سبق وأوقفناها حيث كان هناك مشروع لعمل ساحة أمام مشهد الحسين رضى الله عنه كان يتطلب إزالة مشيخة الأزهر القديمة بحجة عمل هوايات لنفق الأزهر، ولكن تم بحمد الله وقف هذا المشروع احترامًا للتاريخ وتقديرًا لمكانة الأزهر،
حتى نهر النيل الذي سنت القوانين حديثًا لإزالة كافة التعديات عليه طالته أيضًا التعديات من قبل أصحاب الحظوة من النوادي الخاصة، وقد زاد الطين بلة بإنشاء ممشى خرساني في حرم مجرى النهر ليزداد ضيقًا بعد سعة ونقصانًا بعد عمق،
ومن الغريب أن الدولة التي سمحت بذلك هي نفسها من أقامت وأنشأت الجهاز القومي للتنسيق الحضاري ليكون درعًا وقيًا لحماية المباني التراثية والطراز المعماري والمباني ذات القيمة التاريخية،
وقد قام جهاز التنسيق الحضاري بمسح شامل للمباني بجميع محافظات مصر، وسجل كافة هذه المباني في سجلات تحت إشراف مجلس الوزراء إلى جانب قيام الجهاز بتوثيق الحدائق التراثية والمدافن والمقابر التاريخية ذات القيمة التراثية،
تلك المدافن التي تمتلك مجموعة نادرة من فنون العمارة والزخرفة لا مثيل لها، فتلك القرافات لا تمثل مراقد للموتى فحسب ولكنها أيضاً شيدت وفق طرز معمارية انفردت بها القاهرة عن غيرها من باقي محافظات مصر بل وتنفرد بها على مستوى العالم،
ومن المخزي والمحزن أن بعض من تلك المدافن التي حددت محافظة القاهرة قائمة بإزالتها تخص نخبة من رجالات العلوم والفنون والسياسة وتلك مخالفة للقانون 144 لسنة 2006 الذى يمنع هدم المباني التي ارتبطت بشخصيات تاريخية ومن أمثلتها شريف باشا صبري ومحمد محمود وغيرها فالقائمة طويلة،
كذلك قام جهاز التنسيق الحضاري مشكورًا مستبقًا للمخاطر فوضع حدودًا للقاهرة التاريخية، كما وضع لها نطاقات تحفظ حقوقها وحرمتها، وشيد لنا نموذجًا حي في القاهرة الخديوية ليكون نبراسًا تقتدى به مشروعات إعادة التأهيل والترميم والصيانة والحفاظ.
ويختتم الدكتور محمد الكحلاوى حديثه قائلًا ” إنني لا أمل ولا أكل من مناشدة فخامة رئيس الجمهورية من أجل مصرنا الحبيبة التي أعي تمامًا قدر حبه لها،
فهو من أبناءها الذين تربوا في أعرق أحياءها التاريخية “حي الجمَّالية” ويقدر قيمة التاريخ وقيمة التراث، وكذلك دولة رئيس الوزراء الذى لم يباريه ولم يسبقه أحد في انتماءه وحبه لمصر وما قدمه من أجل الحفاظ على الآثار والتراث الحضاري المصري،
وقد شرفت بالعمل معه لسنوات في لجنة التظلمات بالجهاز القومي للتنسيق الحضاري، وقد شرفني بعضوية اللجنة العليا للتخطيط بمجلس الوزراء، وفى كل مرة أنبه على مخاطر المشروعات الحديثة التي لا ترعى للقاهرة التاريخية حرمة ولا تقدر لها تاريخاً،
ويبقى السؤال من أين جاءت محافظة القاهرة بهذه المشروعات التي اختصت بها قرافات القاهرة التاريخية هل كانت تستطيع أنت فعل ذلك مع مدافن الطوائف الأخرى مثل مدافن اليهود والأرمن و مارجرجس والعالمين وغيرها من جبانات الطوائف الأخرى التي لها من يحميها، أما قرافات القاهرة فجاءها من يزيلها،
ومن الغريب أن هذا المشروع لم يعرض علينا في اللجنة العليا للتخطيط ولم تعلنه محافظة القاهرة في أي وسيلة من وسائل الإعلام ليتبارى المتخصصون في فحصها وتنقيحها وإبداء ملاحظاتهم عليها تجنبًا لمخاطر تدمير التراث،
ومن الغريب أن تأتى هذه الأحدث تتعمد تشويه التاريخ المصري في الوقت الذى يدعو فيه السيد رئيس الجمهورية للحوار الوطني ليتلاقى فيها كافة جموع المصريين بكل طبقاتهم وفئاتهم بأفكارهم وآرائهم للارتقاء بمصرنا الواعدة بشرًا وحجرًا وحاضرًا ومستقبلًا،
وهو أقل ما يقدم لصاحبة الرفعة والتاريخ حفظها الله من كل سوء وصانها من العبث والعابثين بأمنها وتراثها التليد،
ورحم الله شوقى عندما قال إنما الأمم الأخلاق ما بيقت وعلى وزنها أقول إنما الأمم الآثار ما بقيت فإنهم ضاعت آثارهم ضاعوا، والله من وراء القصد وهو يهدى إلى سواء السبيل.