ونحن نحتفل في هذه الأيام المباركة، بذكرى انتصارنا في العاشر من رمضان من عام 1393، السادس من أكتوبر لعام 1973، أتذكر لحظة وصول الفريق محمد عبد الغنى الجمسي، عائداً من المباحثات، مع الجانب الإسرائيلي، في منطقة الكيلو 101، للفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية، بعد صدور قرار الأمم المتحدة، بوقف القتال، في حرب 73.
وأتذكر دخوله لغرفة عمليات الحرب، لاطلاع المشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية، على نتائج جلسة المباحثات، وأتذكر أننا سمعنا هتافه، قبل إغلاق الباب، وهو يقول “يا فندم ده موضوع قفل باب المندب وجعهم قوي … طوال المناقشات كل شوية افتحوا باب المندب … افتحوا باب المندب … حتى وأنا متوجه لركوب سيارتي لحقني رئيس الوفد الإسرائيلي، الجنرال أهارون ياريف، مدير المخابرات الإسرائيلية، ليذكرني بفتح باب المندب”.
كانت قوات البحرية المصرية، قد أغلقت مضيق باب المندب أمام الملاحة الإسرائيلية، في تمام الساعة الثانية والربع، من ظهر يوم السادس من أكتوبر، فور بدء الهجوم المصري لاقتحام خط بارليف، في مفاجأة لم يتوقعها العدو الإسرائيلي، فارضة عليه، بذلك، حصاراً بحرياً خلال حرب أكتوبر 73، إذ كانت إسرائيل تعتمد عليه لمرور وارداتها، ومنها، على سبيل المثال، النفط الإيراني، البالغ حجمه، حينها، نحو 18 مليون طن، تمر كلها من باب المندب، إلى ميناء إيلات لاستخدام جزء منه، وإعادة تصدير الباقي إلى أوروبا. وخلال فترة الحصار من يوم السادس من أكتوبر 1973 وحتى الأول من نوفمبر من نفس العام، لم تدخل ناقلة نفط واحدة إلى ميناء إيلات، إلا عندما سمح الرئيس السادات بدخول أول ناقلة، مقابل إيصال الامدادات إلى قوات الجيش الثالث، شرق القناة.
كانت عملية إغلاق مضيق باب المندب، سبباً في إضافة تعريفات، ومفاهيم، وقوانين جديدة إلى العلوم العسكرية، إذ عُرفت تلك العملية باسم “الحصار البحري عن بُعد”، وفيها تم استخدام القوات البحرية المصرية، في منطقة باب المندب، بعيداً عن القوات الجوية للجيش الإسرائيلي، أو “اليد الطولي” كما يحبون أن يطلقوا على أنفسهم، واعتمد المصريون في ذلك على اليقين من أن الفكر الإسرائيلي، قاصر عل التفكير في أن أي محاولة لعرقلة الملاحة الإسرائيلية في البحر الأحمر، ستكون من خلال مضائق تيران وصنافير. فكان إغلاق الملاحة من ناحية باب المندب ضربة مفاجئة، ومؤلمة، لإسرائيل، وقفت أمامها عاجزة عن التصدي للقرار المصري، وظل ميناء إيلات مغلقاً، تماماً، حتى يوم الأول من نوفمبر 73.
كان اللواء أشرف رفعت، رئيس شعبة عمليات القوات البحرية، هو صاحب فكرة إغلاق مضيق باب المندب، في وجه الملاحة الإسرائيلية، والتي يصفها بأنها استهدفت حصار ميناء إيلات، بعملية يتم تنفيذها خارج مدى القوات الجوية الإسرائيلية، وعليه كان التفكير في مضيق باب المندب، بدلاً من تيران وصنافير، دونما مساس أو خرق للقانون الدولي، حيث سمحت قواتنا البحرية بمرور كافة السفن، خاصة الأمريكية والبريطانية، والفرنسية. تم تنفيذ الخطة، من خلال قيام مصر بتأسيس شركة مدنية، بميناء الحديدة، في اليمن، قبيل الحرب بعدة أشهر، ومن خلال نشاطها تم تخزين الأصناف التي قد تحتاجها القوات البحرية المصرية، أثناء فترة الحصار.
وضمن خطة الخداع الاستراتيجي، دفعت القوات البحرية المصرية، بعناصر الحصار البحري، على فترات متباعدة، حتى أن اللواء بحري أركان حرب مصطفى كمال منصور، قائد عملية حصار باب المندب، صرح بأنه لم يكن على علم بالموعد المحدد للعملية، إلا قبلها بشهرين، وأنه تحرك بالقطع البحرية اللازمة للتنفيذ، في شهر أغسطس 73، باتجاه ميناء عدن، باعتباره محطة استقبال مؤقت لقطع الأساطيل البحرية، المتجهة لميناء كراتشي، في باكستان، لدخول الحوض الجاف، وإجراء العمرة الدورية للسفن. وأمام طبيعية الإجراءات، لم تنتبه إسرائيل للخدعة الكبيرة، إلا يوم 6 أكتوبر، بعد استكمال التجميع البحري المصري، من المدمرات والغواصات ولنشات الصواريخ، التي تمركزت في مواقعها بمدخل باب المندب.
كانت عملية حصار باب المندب أحد نقاط التحقيق في “لجنة أجرانات الإسرائيلية”، التي تم تشكيلها، بعد هزيمة إسرائيل في حرب 73، لمعرفة درجات القصور، خاصة المعلوماتي، في الحرب، حتى أنها سُميت “لجنة التقصير”، وقد أشار تقرير اللجنة، ضمن ما أشار له، لقصور المخابرات الإسرائيلية في اكتشاف عملية حصار باب المندب، متهماً إياها بالعجز عن أداء صميم عملها في متابعة تحركات قطع الأسطول المصري، في البحر الأحمر، وفشلها في تحليل أسباب تكدسات المصريين في ميناء الحديدة، بما أدى لخسائر فادحة على الجانب الإسرائيلي. وهكذا نجحت القوات البحرية المصرية، في هذه العملية، تخطيطاً، وتنفيذاً، لتفاجئ إسرائيل بضربة موجعة، سواء من الناحية العسكرية، أو من الناحية الاقتصادية، حتى أن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية قالت أن نعيق البوم فوق ميناء إيلات، إشارة لأنه مهجور، كان مؤشراً على فشل المخابرات الإسرائيلية في معرفة نوايا المصريين، وفشل القوات الجوية الإسرائيلية في تأمين مطالب إسرائيل.
وهكذا أثبت المقاتل المصري تميز مستواه في التخطيط والتنفيذ، بما بوأه ليكون المثل والقدوة للعالم كله، وليكون أهلاً لتغيير وتعديل مفاهيم القتال البحري، اعتماداً على خبرته في حرب أكتوبر 73 المجيدة.