تَخرجُ من ركام الحرب وحطامها، وتنبري كزهورٍ وسط أرض محروقةٍ تفوحُ منها رائحةُ البارود، تتربعُ في مدينة حمص القديمة، وسط سوريا، أشهر المطاعم الأنيقة بمظهرها وحجارتها الأثرية، لتعاود نشاطها بخجلٍ مع كل الدمار والضرر اللذين لحقا بها في سنوات الحرب السورية، ومعها جازف عدد من المنشآت السياحة لتعاود نشاطها من جديد، وكأنها تعيد إنعاش الحياة في هذه الأماكن التي فقدت روحها مع دوران آلة الحرب فيها.
سياحة من وحي الدمار
يعود نبض الحياة إليها مجدداً، لكنها مازالت تلك الأحياءُ مكفهرة على الرغم من توقف الحرب في المدينة (العدية) وهو الوصف الذي تشتهر به مدينة حمص، وفي مطعم قديم يحاول عبثاً أن يعيد إيقاع الحياة مُستلهماً من وحي الدمار والحروب التي اندلعت في العام 2011 الجزء الأكبر من هوية هذا المطعم. ينتشرُ عدد محدود من الطاولات والكراسي المصنوعة من الخيزران في ساحة المطعم وهو ما يسمى (الدار العربي) تاركاً في زاويته المدمرة كلياً شيئاً من ذكرى الحرب، يُقدم المشروبات الساخنة وقليلاً من الوجبات والمأكولات الشعبية الشهيرة في المدينة لزبائنه.ويغري هذا المطعم رواده بالجلوس بساحته والتأمّل في دمار الحرب كنوعٍ من الذكرى المؤلمة، لكنه يوصل رسالة لكل زبون يجلس في هذا المطعم أن الحياة ستستمر، وتُدهش السيدة رُبا سركيس، 40 سنة بعد غياب عن سوريا مدة عشر سنوات كانت فيها مقيمة في دولة خليجية، وبعد رحلتها إلى مدينة حمص، وعدد من المدن السورية تقول “جزء من المطعم تضرّر ودُمّر بينما يُبرز العاملون في المطعم وهو الجزء الأساسي غير المتضرر استمرار الحياة، أنت أمام مقارنة بين الحياة والموت، الدمار والإعمار”.
سياحة تحرق القلوب
وخلف أكوام حجارة سوداء يلتقط جواد، صورة “سيلفي” له ولمجموعةٍ من أصدقائه في أسواق حلب القديمة، شمال سوريا، الحجارة المتناثرة مع أبنية شبه مهدّمة ومتداخلة مع الأسواق المحروقة تلوح في مخيلة من يشاهدها أنه في هذا المكان حدث أشبه ما يمكن وصفه بإعصار، أو زلزال مدمر، لكن قوته التدميرية ليست بفعل الطبيعة، بل بفعل البشرية. هنا في حلب القديمة وأمام قلعتها، شهدت أكثر المعارك والنزاعات المسلحة شراسة على الأرض السورية، كبّدتها خسائر لا تعوض بثمن، ومنها تدمير تراثها الثقافي والحضاري وتخريبه، يقول الشاب جواد 25 سنة “نلتقط أنا وأصدقائي صوراً للدمار نضعها على صفحاتنا في مواقع التواصل الاجتماعي، لكن قلوبنا محترقة على ما حدث في أسواقها وتراثها، وصدمة الدمار الذي شاهدناه في الأسواق، والأماكن الأثرية تبقى غصة في قلب كل من يشاهدها”.
حالة هذا الشاب الآتي من دمشق لرؤية حلب المدمرة، يُعرّفها خبراء السياحة بأنها سياحة (داخلية)، أي أنها التنقل والسفر داخل البلد بغرض التنزه والاستجمام، وهي أكثر ما تحدث في مدن الساحل السوري صيفاً، ودمشق وحلب، أكثر المدن جذباً لهذا النوع من السياحة، لكن في سنوات الحرب، أطلقت وزارة السياحة في العام 2014 ما يسمى السياحة العائلية عبر دعم عددٍ كبيرٍ من المنشآت السياحية لهذا الهدف، حيث عادت أكثر من 700 منشأة سياحية إلى العمل خلال عامي 2014 و2015، وهناك فنادق ومشاريع بدأت بالعودة، وكلها لم تكن تستقطب في هذا الوقت سائحين من خارج سوريا بسبب عدم استقرار البلاد.
المدن والسياحة من الخارج
سياحة الحرب إلى المدن المدمرة هي اليوم سياحة من نوع آخر، وباتت تستقطب ليس السوريين وحدهم بعد انتهاء الحرب، بل أخذت تجذب الوفود الإعلامية والسياحية من خارج سوريا، وليس لزيارة أماكن عرفت بشهرتها الأثرية من (أسواق وقلاع ومنتزهات)، لكن من أجل التعرف على المواقع المدمرة التي كان يشاهدها الرأي العام العالمي على شاشات التلفزة ونالت تغطية إعلامية واسعة النطاق. تلك المناطق على سبيل الذكر، الجامع الكبير في حلب ومئذنته، مع أسواق المدينة القديمة التي أُحرقت، وأحياء حلب القديمة في العام 2012، بعد استقرار المدينة في ديسمبر (كانون الأول) من العام 2016 وتوقف العمليات الحربية فيها، أخذت الوفود الإعلامية أولاً ومن بعدها السياحية تتوافد لمشاهدة كل شيء في الأماكن الأثرية ومعها مناطق الدمار.
لم يكن قرار عودة المنشآت السياحة في محيط قلعة حلب بالقرار السهل، فحجم الدمار كبير، بل إن منشآت دمرت بشكل كامل منها فندق “الكارلتون”، ومع ذلك جازف عدد من أصحاب هذه المنشآت لاستثمارها، وكانت البداية في حلب من عودة تأهيل “حمام سوق” يسمى “باب الأحمر” وهو من المنشآت القديمة، ويقول صاحب أحد المقاهي المتربعة في محيط قلعة المدينة، إن عودة المقهى لم تكن بالأمر السهل بسبب نقص في الأيدي العاملة أثناء الترميم، ولكننا أنجزنا ترميم المقهى على الرغم من الدمار الكبير فيه لأننا أردنا أن نستمر.
السياحة العربية لسوريا
وعقب افتتاح معبر جابر، أو ما يسمى نصيب الحدودي، وضعت جمعية وكلاء السياحة والسفر في الأردن دراسة لاستئناف الرحلات السياحية البرية إلى سوريا بين البلدين، وافتتح المعبر في 15 أكتوبر (تشرين الأول) في العام 2018 بدخول 162 مواطناً أردنياً و37 مواطناً سورياً وأجنبياً واحداً، في حين بلغ عدد الآتين من سوريا 32 مواطناً أردنياً و16 مواطناً سورياً وهذا في اليوم الأول من افتتاحه. وكشف خبراء في مجال السياحة والسفر، عن إقبال متزايد لأعداد كبيرة من الكويتيين يسافرون إلى سوريا بهدف السياحة والعلاج والزيارات الأسرية، وفتح قنوات للاستثمار وخصوصاً في مجال إعادة الإعمار، فضلاً عن السياحة الدينية التي أكدوا أنها لم تنقطع يوماً مع تقديم شركات طيران خليجية طلبات للطيران المدني السوري للعمل داخل سوريا.
ويؤكد خبراء في المجال السياحي أن إجراءات الدخول إلى البلاد ميسرة، فالكويتيون يحصلون على تأشيرة دخولهم في المطار خلال دقائق بمجرد دفع الرسوم، أما السياحة الجماعية الدينية فهي لا تحتاج إلى تأشيرة دخول والأمر لم يتوقف على زيادة عدد المسافرين من الكويت إلى سوريا، بل باتت الكويت نقطة عبور لنقل المسافرين إلى دمشق من دول مختلفة. وشكّلت العقوبات المفروضة خلال الحرب على الطيران السوري تأثيراً كبيراً في القطاع السياحي ومنعت الكثير من الزوار من القدوم إلى سوريا، وهناك العقوبات المصرفية، ومنع استخدام زوار سوريا “كريديت كارت” على سبيل المثال، بسبب العقوبات المصرفية، وحتى على الشركات السياحية التي تعمل بمنظومة “بي إس بي” الخاصة بالحجوزات الإلكترونية.
تلك السياحة في زمن الحرب، كشفت للزوار معالم المدن المدمرة على حقيقتها بعد أن شاهدوها على وسائل الإعلام المختلفة، وما يأمله أصحاب المنشآت السياحية أن تنطلق السياحة في سوريا من جديد خصوصاً أنها تشكل دخلاً قومياً للبلاد.