لو وهبنى الله عز وجل حياة جديدة ومنحنى حرية اختيار تفاصيلها لطلبت نفس حياتى هذه دون أى تغيير. فلله، جل جلاله، حكمه فى كل ما يمر به الإنسان، كل ثانية وكل دقيقة وكل يوم وكل سنة.
لقد شاهدت عيناى أحداثا جساما فى تاريخ مصر وكنت قريبا من أصحاب القرار، كما سمعت أُذناى أحاديث وتصريحات وأصوات لن أنساها مدى حياتى ولمست يداى كنوزا تاريخية وطبيعية وتراثية ومستلزمات مرتبطة بمواقف بالغة الأهمية فى حياتى.
كما داست قدماى معظم أراضى مصر الذهبية والطينية وقفزت فى سمائها بالمظلات وسبحت فى بحارها ونيلها وهو ما يستوجب أن أشكر الله على كل هذه النعم التى وهبها لى والتى لا أتخيل غيرها فى حياتى.
فإذا طلب منى ربط ما ذكرته بمواقف وأحداث فسأسجل الآتى: بالنسبة لأهم ما شاهدته عيناى مع الارتباط بتسلسل السنين فأذكر فى النصف الثانى من الأربعينيات حياتى فى حى عابدين المجاور لقصر ملك مصر.
فقد شاهدت استعراض المحمل بكسوة الكعبة قبل سفره للمملكة السعودية وأذكر انتشار المياتم لتقبل العزاء فى شهداء حرب فلسطين عام ١٩٤٨. وكان يبهرنى النظر للشارع ليلا من شرفة منزلنا خلال شهر رمضان حيث تنتشر أضواء شموع فوانيس رمضان والتى يحملها الأطفال هنا وهناك وكأنها نجوم متحركة وسط ظلام شبه دامس.
فقد كانت الشوارع تضاء بمصابيح الوقود السائل وهو ما كان يشع ضوءا خافتا.
وحضرت زيارة أول رئيس جمهورية، المرحوم محمد نجيب، لحى المعادى وصافحته وكنت برفقة المرحوم والدى وشاهدت الاستقبال الحافل له وأسلوب تعامله الإنسانى الرائع مع المواطنين.
وشاء قدرى أن أكون من القلائل الذين حضروا اكتشاف مركب خوفو والملقبة بمركب الشمس عام 1954 بعد رفع جمالون واحد وظهور الأجزاء الخشبية بوضوح واستنشاقى رائحة خشب الصنوبر العتيق المنبعث من هذه المقبرة.
وخلال الليالى المظلمة، أيام الاعتداء الثلاثى على مصر عام ١٩٥٦ حيث كانت إضاءة المساكن ممنوعة أثناء الغارات وكنا ملزمين بتغطية زجاج النوافذ بورق لاصق داكن اللون، وكانت والدتى تضع مراتب النوم على أرضية مكتب المرحوم والدى خلال النهار مع علب الطعام وزجاجات المياه وعدد كافٍ من الشموع فكنا عند حلول الليل نجتمع كأسرة ونتبادل أطراف الحديث بصوت خافت جدا قبل النوم ونراقب المرحوم الوالد وهو منكب على كم هائل من الملفات والأوراق فى ضوء شمعة واحدة ليقرأ ويكتب ويكتب.
فقد كان مسئولا عن إنقاذ مصر من الحصار الإقتصادى والذى فرض عليها فى ذلك الوقت كما حييت وأنا بملابس النوم المرحوم الرئيس جمال عبدالناصر منتصف الليل بصالون منزلنا عندما حضر بشكل مفاجئ للاطلاع على اقتراحات الوالد الخاصة بفك الحصار الاقتصادى فى تلك الظروف وسمح لى بمشاركة والدى وزملائه من الوزراء فى التدريب على الأسلحة وضرب النار بأرض نادى المعلمين أمام النادى الأهلى ثم بتبة ضرب النار بالهرم.
وبعد عودة المياه إلى مجاريها بين مصر وبريطانيا تعاقدت مصر للطيران على شراء أولى الطائرات النفاثة فى تاريخ مصر من نوع كوميت سى فور وركبنا أول رحلة من القاهرة إلى لندن برفقة المرحوم الوالد والوفد المصرى والذى كلف بتوقيع اتفاقية سموحة.
وشاهدت والدى يمسك بميكروفون كبير المضيفين ليتحدث لكل أعضاء الوفد وينصح بتحمل أى متاعب أو مشاكل أثناء الاستقبال والخروج من المطار فقد توقع المعاملة الجافة من جانب المسئولين البريطانيين وعندما هبطنا من الطائرة المصرية فوجئنا باستقبال حافل وترحيب حار واعتراف بذكاء الدكتور القيسـونى فى مفاوضاته مع الجانب البريطانى لدرجة أن الصحف البريطانية صدرت اليوم التالى ومطبوع بها كاريكاتور للوالد ممسكا بذيل الأسد البريطانى وتعليق استقبال الرجل الذى ضحك على الأسد البريطانى.
تشرفت أن أكون ضمن كتيبة حرس الشرف من طلبة الكلية الحربية عام ١٩٦٤ أمام رئيس الجمهورية طوال استعراض الجيش بمناسبة ٢٣ يوليو والوقوف ثابت سبع ساعات كاملة. ويوم دخلت غرفة نوم والدى ووالدتى المرضى مرتديا ملابس ضابط مظلات وكان يوم تخرجى من الكلية الحربية فأديت التحية العسكرية له ووقفت منتصب القامة أمامه لأشاهد الدموع فى عينيه وقيامه باحتضانى بحنان بالغ وقوله إنه فخور بى فقد ذكرته بجدى وزير حربية الحجاز.
وبالجبهة بعد نكسة يونيو بشهر واحد فوجئت بوالدى يجلس على ثلاث جراكن ماء فارغة وحوله زملائى الضباط وسط موقع وحدتى العسكرية على خط قناة السويس بالقنطرة غرب مما شكل صدمة لى خوفا عليه حيث كنا فى اشتباك مع العدو الليلة السابقة وعلمت منه أنه لأول مرة فى حياته يرجو فى استثناء من المرحوم الفريق أول فوزى وذلك بالتصريح له بزيارة الجبهة وموقع وحدتى حيث اعتقد لانقطاع الأخبار أننى استشهدت.
وشاهدت عيناى نسور مصر وهم يمرقون على ارتفاع منخفض يوم 14 يونيو 1967 لينقضوا على قوات العدو على الضفة الشرقية ويحيلوا مواقعهم إلى جحيم لتكون أول ضربة جوية بعد النكسة تلتها طلعات رائعة حتى حرب رمضان.
وفى إجازة عدة ساعات من الجبهة نهاية نفس العام ١٩٦٧قدمت صحف الصباح للوالد ثم بدأت فى سكب الشاى له ولوالدتى وسمعته يقول لقد خرجت من الوزارة بعد اطلاعه على الصحيفة وبعدها بساعة شاهدت لورى ينزل منه الرجال ليرفعوا كشك الحراسة من أمام منزلنا تلتها خمس سنوات من العزلة الكاملة وانقطاع الاتصالات والسؤال عنه وكأنه لم يولد فى هذه الدنيا.
كنت أشاهد كوكب الشرق السيدة الوطنية العظيمة السيدة «أم كلثوم»، رحمها الله، عند دخولها منزل الرئيس جمال عبدالناصر حيث كانت تُستَقبل كعضو من أسرة الرئيس وكانت الأبواب مفتوحة لها على مصراعيها وبترحيب وإعزاز دائم وكانت أعز صديقات السيدة الفاضلة «تحية» حرم الرئيس رحمها الله.
وشاهدت جنازة المرحوم الرئيس عبدالناصر لحظة بلحظة حيث كنت أرافق خالد لمدة أسبوع كامل.
شرفنى أن أكون حامل علم قوات المظلات يوم13 نوفمبر 1974 عندما قام المشير أحمد إسماعيل رحمه الله بتقليد العلم وسام الجمهورية تقديرا لبطولات ضباط وجنود المظلات خلال حرب أكتوبر ٧٣.
شاهدت طوفان الزهور والبرقيات لتهنئة والدى عندما أعلنت الصحف لقاءه بالمرحوم الرئيس السادات بالقناطر الخيرية وعندما مرت أيام ولم يصدر خلالها أى قرارات بتكليفه بوزارة، خبت كل هذه المجاملات بشكل قاطع ليعود إلى عزلته.
عبرت القناة بعد العبور العظيم بعشرة أيام حيث شاهدت علم مصر يرفرف على خط بارليف وكنا جميعا مسلمين ومسيحيين فى صيام بمناسبة شهر رمضان المبارك وقيام جندى بالأذان لصلاة العصر من أعلى خط بارليف وشاهدت أسود مصر يصلون بسلاحهم وملابسهم بالكامل بينما زملاؤهم المسيحيون يقومون بحراستهم.
شاهدت ملامح الصدمة والذهول والحزن على وجه والدى أثناء اطلاعه على أخبار مظاهرات 17 و18 يناير 1977 وتابعت مساندة ودعم المرحوم الشيخ الشعراوى وزير الأوقاف والمرحوم الدكتور إبراهيم بدران وزير الصحة للوالد عن اقتناع وثقة مؤكدة ثم الشهور البشعة فى حياته والتى تلت هذه الأحداث وتخلى قيادات الدولة عنه مع إلغاء قراراته الاقتصادية والتى كانت الحل الوحيد لإنقاذ مصر من الظروف القاسية التى ضربت الاقتصاد المصرى ثم خروجه لآخر مرة من العمل الحكومى وسفره للخارج حيث كرمته الدول العربية حتى وفاته عام ١٩٨٧.
شاهدت نعش المرحوم والدى مغطى بعلم مصر وسط مسجد بلندن وأشعة الشمس تغطيه وتذكرت كلماته واشتياقه لمصر وشمسها وعدت به لوطنه الذى أحبه وتفانى فى خدمته حتى النهاية.
ويشاء القدر عند انتقالى من السلك العسكرى إلى السلك المدنى أن يفرض على استقبال وزير دفاع إسرائيل فيتسمان والذى حضر بدعوة من الرئيس السادات وكان برفقته وزير دفاع مصر المرحوم الفريق كمال حسن على وأثناء إقامته بمصر تعمد عدة مرات مرافقتى لسطح فندق النيل هيلتون ليقص ذكرياته عن فتره إقامته بمصر كضابط طيار بالقوات البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية ومعسكر إقامته والمبنى عليه اليوم مجمع التحرير وتردده كل حين وآخر على نادى الجزيرة مع أصدقائه وكان موقفا مربكا للغاية لشخصى.
قبل انتقاله إلى رحمة الله تعالى بستة شهور جالست الشاعر «أحمد شفيق كامل» مؤلف كلمات انت عمرى والتى غنتها كوكب الشرق، فقد كان زميلا للمرحوم السيد الوالد رحمهما الله وسألته عن رأيه فى أغانى اليوم فكان رده: تُرى ولا تسمع.
هذه لمحات مختصرة للغاية من حياة كتبها الله عز وجل لى له الحمد وله الشكر على كل شىء.