في مساء يوم 31 ديسمبر، من العام الماضي، وتحت قبة البرلمان الألماني، “البوندستاج”، وقفت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، لتهنئ أعضاء البرلمان، والشعب الألماني، بالعام الميلادي الجديد، معلنة أنها المرة الأخيرة التي ستهنئهم بتلك المناسبة، بصفة رسمية، بعدما قررت عدم الترشح، للمنصب، في الانتخابات القادمة، والمقررة بعد تسعة أشهر، من ذلك اليوم، بعد تربع هذه المرأة الحديدة على قمة الدولة الألمانية، لمدة 18 عاماً، متواصلة، وهو ما كان مفاجأة مدوية بين الأوساط السياسية، على مستوع العالم أجمع.
بدأت المستشارة الألمانية، المولودة في عام 1945، حياتها العملية كعالمة أبحاث، بعد حصولها على درجة الدكتوراة في الكيمياء الفيزيائية، وذلك قبل أن تقرر خوض انتخابات البوندستاج، في عام 1990، بعد توحيد ألمانيا، وتفوز بعضويته عن ولاية مكلنبويج، ليلمع اسمها في عالم السياسة، ويتم تعيينها وزيرة للمرأة والشباب في عام 1991، ثم وزيرة للبيئة عام 1994. وفي عام 1998 انتُخبت ميركل لمنصب الأمين العام لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، قبل أن تصبح زعيمة له بعد عامين، وتترشح منه، في عام 2005، لمنصب المستشار الألماني، والتي فازت بها، للمرة الأولى، وأُعيد انتخابها، مرة ثانية، في عام 2009، ثم مرة ثالثة عام 2013، ثم مرة رابعة عام 2017، والتي قررت في نهايتها عدم الترشح لمرة خامسة.
خلال مسيرتها، وعلى صعيد السياسة الخارجية، ركزت المستشارة ميركل على تعزيز التعاون الأوروبي، حتى وصفها الجميع بالحاكم الفعلي للاتحاد الأوروبي، إذ أصبحت ألمانيا تدير دفة الاقتصاد الأوروبي، بل وتحدد اتجاهاته السياسية، سواء على مستوى دول الاتحاد الأوروبي، أو باقي دول العالم. وبفضل القوة الاقتصادية لبلادها، فقد كان لها القول الفصل، بين دول الاتحاد الأوروبي، في مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية، عام 2008، لمنع إفلاس دول مثل قبرص واليونان والبرتغال، من خلال حزم الدعم المالي، لتفادي الآثار السياسية لسقوط أي دولة من دول الاتحاد الأوروبي، وما لذلك من انعكاسات سلبية على الكيان الاتحادي، وثقله.
وعلى مستوى العلاقات مع الولايات المتحدة، فلقد نجحت في توثيق علاقات بلادها مع كل الرؤساء الأمريكيين المعاصرين لفترة حكمها، ووصفها أوباما بأنها “أقرب شريك دولي”، إلا الرئيس ترامب، الذي شابت العلاقات الثنائية، في عهده، بعد التعقيدات، وصلت لحد تهديده بسحب القوات الأمريكية الموجودة في ألمانيا، ومع ذلك لم تستجب ميركل لضغوطه، وحافظت على علاقات بلادها المتوازنة مع الصين كأحد أهم الشركاء التجاريين. واختارتها مجلة فوربس العالمية، مرتين، كشخصية العام، وفي عام 2015، لقبتها مجلة تايم الأمريكية بنفس اللقب، واحتلت صورتها غلاف المجلة الأمريكية.
أما سياستها الداخلية، فقد أكدتها بلغة الأرقام، بنجاحها في خفض معدل البطالة، إلى أدنى مستوياته في تاريخ ألمانيا، ليصل إلى 4,9%، وحولت عجز الميزانية إلى فائض، وبدأت في تحويل بلادها لاستخدام الطاقة النظيفة. كما حققت، ميركل، طفرة كبيرة في رفع مستويات التعليم والرعاية الصحية، وقادت حملة إصلاح وتطوير ألمانيا الشرقية، بعد انضمامها إلى ألمانيا الموحدة، لإزالة جميع الفروقات بين مستويات الخدمات والبنية الأساسية. ولإحداث توازن في النسيج الديمغرافي للمجتمع الألماني، قررت السماح للاجئين السوريين بدخول ألمانيا، للحد من هجرة الأتراك إليها.
وعلى الصعيد الشخصي، فلقد تزوجت في سن 23، من زميلها عالم الفيزياء أولريش ميركل، ورغم طلاقهما، في عام 1982، إلا أنها احتفظت باسم العائلة، وتزوجت، للمرة الثانية، زوجها الحالي، أستاذ الفيزياء الكم يواخيم زاور، الذي آثر البعد عن الأضواء، وليس لديها أطفال من الزيجتين. عُرف عنها ولعها الشديد بكرة القدم، وهو ما ظهر من حرصها على حضور المباريات، خاصة مباريات المنتخب الوطني الألماني. ورغم نجاحها الباهر في السياسة والإدارة، إلا أنها تعرضت لانتقادات حادة، كان أبرزها بسبب مشاركتها في تسليم جائزة M100 الإعلامية لرسام الكاريكاتير الدنماركي كورت فيستر جارد، صاحب الرسوم المسيئة للرسول محمد، صلى الله عليه وسلم، وهو ما تداركته بإدانتها لحرق القرآن الكريم من قبل القس تيري جونز في فلوريدا.
تتمتع ميركل بشعبية كبيرة داخل المجتمع الألماني، ليس فقط بسبب سياستها المتوازنة، التي جعلت بلادهم تحتل مكانة كبرى على مستوى العالم، وإنما، أيضاً، لما لمسوه منها من بساطة في المظهر العام، إذ لاحظوا عليها احتفاظها بملابسها، وتكرارها، عبر السنين الطويلة، وهو ما لا يُعهد كثيراً، خاصة من السيدات، كما تجلت بساطتها في حرصها على تناول طعامها في الأسواق العامة، خلال عطلات نهاية الأسبوع، رغم ما كان يحمله ذلك، من بعض الرسائل السياسية، مثل تناولها “الشاورما” في المطاعم السورية، للتأكيد على سياستها بالترحيب باللاجئين السوريين في ألمانيا.
وهكذا، وبعد 18 عاماً من العطاء السياسي، يتم انتخاب مستشار ألماني جديد، وهو السيد أولاف شولتس، وتغادر “المرأة الحديدية”، منصبها، كثان حاكمة سياسية، تحصل عل هذا اللقب، بعد رئيسة الوزراء البريطانية الأسبق، السيدة مارجرت تاتشر، بعدما استحقت تقدير وحب واحترام، ليس الشعب الألماني، فحسب، وإنما العالم كله، وهو ما عبر عنه السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، بالثناء على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، واصفاً إياها “بالشخصية العظيمة ذات النمط القيادي الفريد، الذي يجمع بين الحكمة والقوة، والتي أنجزت طوال مسيرتها السياسية البراقة الكثير تجاه وطنها وشعبها، وأوروبا والعالم”، ومشيداً بدورها المحوري، الذي شهده سيادته، خلال السبع سنوات الماضية، في تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين والشعبين الصديقين.
Email: [email protected]