الليلة، الخميس 25 نوفمبر 2021، تتلألأ أنوار طيبة القديمة، الأقصر، عاصمة الحضارة ومهد التاريخ والإنسانية، منذ ما يزيد عن أربعة آلاف سنة، إيذاناً بالاحتفال بإعادة افتتاح طريق الكباش، أو طريق أبو الهول Avenue of Sphinxes، الذي بناه قدماء المصريون ليربط بين معبدي الأقصر والكرنك بطول 2700 متر، لتتحول بعدها الأقصر إلى أكبر متحف مفتوح في العالم، وتتبوأ مكانتها المُستحقة.
لقد بدأ ذلك المشروع العملاق في عام 2004، عندما توليت منصب محافظ الأقصر، ضمن خطة التطوير الشاملة للمحافظة، وحصلت عنه على جائزة الاتحاد الأوروبي، في عام 2011، خلال مؤتمره السنوي الذي عقد، حينها، في مدينة باليرمو الإيطالية، خاصة وأنها كانت المرة الأولى التي يساهم فيها الاتحاد الأوروبي في تمويل مشروعات تراثية وثقافية، نتيجة للجهد العظيم الذي بذلته السيدة الفاضلة فايزة أبو النجا، وزيرة التعاون الدولي، آنذاك. فلولا جهودها لما تمكنا من تنفيذ مراحل المشروع، التي بدأت بعمليات إزالة العشوائيات حول ساحة الكرنك، وفوق طريق الكباش، وتعويض أصحابها، حفاظاً على الصالح العام، رغم كونهم متعدين، بالأساس، على أملاك الدولة، مع استبدال ما تم هدمه، فتم بناء ثلاث مساجد جديدة وكنيسة ومركز شرطة وبازارات، لتعود ساحة الكرنك لصورتها التاريخية التي بناها قدماء المصريون منذ آلاف السنين، واستحقت الأقصر، عن ذلك المشروع، جائزة اليونسكو، التي تسلمتها، سابقاً، خلال المؤتمر السنوي للمنظمة في البرازيل.
ومع الأسف، نتيجة لأحداث يناير 2011، توقف استكمال الجزء الأخير من مشروع فتح طريق الكباش، وهي منطقة نجع أبو عصبة لمسافة 100 متر، حتى أصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي توجيهاته للهيئة الهندسية لاستكمال ذلك الجزء الأخير، والانتهاء من كافة التجهيزات الهندسية اللازمة لاستكمال المشروع، تمهيداً للاحتفال به، الليلة، بصورة مشرفة، تليق بعظمة مصر وحضارتها وتاريخها بين الأمم، ولتظهر مكانة الأقصر كمدينة متفردة عن باقي مدن العالم، بإبراز باقي معالمها الأثرية، كمعبد الكرنك أو بالأصح مجموعة معابد الكرنك، أكبر آثار العالم، المشيد على مساحة 200 فدان، لعبادة الإله آمون، والذي يعد أكبر معبد ديني تم تشييده، على الإطلاق. بناه من ملوك الأسرة 11 من الدولة الوسطي، وفي مرحلة الدولة الحديثة، اهتم ملوك الأسرة 18 بتطويره من الداخل، ليؤرخ للعصر الفرعوني بأكمله.
ومن المتوقع أن يسلط احتفال الليلة الأضواء على معبد الأقصر، صاحب المكانة العظمى في التاريخ، باعتباره رمزاً لمختلف الديانات، بدءاً من الديانة المصرية القديمة، مروراً بالديانة المسيحية، التي يمثلها المذبح الذي أقامه الرومان، في نهاية المعبد، عند وصولهم للأقصر، ولايزال موجوداً حتى يومنا هذا، وصولاً إلى مسجد أبو الحجاج، أحد أهم المعالم الإسلامية، في الأقصر، المقام فوق أعمدة المعبد. يتعامد كل ذلك، بدقة، مع المعبد الجنائزي لحتشبسوت في الدير البحري، بالبر الغربي، المتميز بتصميمه المعماري المنفرد، المكون من ثلاثة طوابق، بطراز مختلف عن المعابد المصرية، التي كانت تبنى على الضفة الشرقية من النيل في طيبة. والليلة عندما نشاهده، والأضواء تبرز معالمه، سيتذكر العالم إقامة أوبرا عايدة حوله، من قبل، لتتجدد الدعاية للأقصر الحديثة.
وسيتجدد الفخر بعظمة مصر، وحضارتها، ونحن نشاهد البر الغربي للأقصر، الذي أبدع قدماء المصريون في اختيار أرضه، المرتفعة نسبياً، مقراً لمقابر ملوكهم وملكاتهم، لحمايتها من أخطار فيضان نهر النيل، فنرى على يمينه مقابر وادي الملوك، في مواجهة طيبة، وعددهم 63 مقبرة، يعد أشهرهم مقبرة توت عنخ آمون، التي اكتشفها عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر عام 1922، وترجع شهرتها لاكتشاف كنوزها كاملة دون تلف أو سرقة، وكذلك هناك مقبرة أبناء رمسيس الثاني، أكبر مقابر وادي الملوك بطول 443,2 متر، ومقبرة أمنحتب الثاني، ومقبرة رمسيس الرابع، وغيرهم من ملوك مصر. وعلى الطرف الآخر، من البر الغربي، تقبع مقابر ملكات مصر، في واديهم، وعددهم 91 مقبرة، أشهرهم مقبرة الملكة نفرتاري، المتميزة بروعة نقوشها وألوانها، الواضحة، بشدة، حتى الآن.
وبين مقابر وادي الملوك ووادي الملكات، توجد مقابر الأشراف، وعددهم 950 مقبرة، التي استباحها الأهالي، من قبل، في بناء منازلهم فوقها، بصورة عشوائية، دون مراعاة لأهميتها التاريخية، فيما عرف باسم “قرية القرنة”. ولما توليت منصبي، محافظاً للأقصر، أخذت على عاتقي مهمة نقل أهالي القرنة، وعددهم 3250 أسرة، من فوق المنطقة الأثرية، إلى “قرية القرنة الجديدة”، التي بنيت خصيصاً لهم بدلاً من منازلهم العشوائية، المتوارثة، والتي لم تتعد على أراضي الدولة، فحسب، بل تعدت على مقومات الحياة الكريمة للإنسان، إذ كان أهاليها يفضلون العيش فيها دون مياه وكهرباء وصرف صحي، أو حتى خدمات كالمدارس، عن الانتقال إلى أماكن جديدة. وبفضل من الله، وبتضافر جهود المخلصين من أبناء مصر، نجحت تلك الملحمة الجديدة، وتم نقل الأهالي إلى “القرنة الجديدة”، في ثاني أكبر عملية نقل للسكان، بعد نقل أهالي النوبة، وقت بناء السد العالي.
والليلة ستحتفل، مصر، وسيحتفل معنا العالم، بعرض كنوز الأقصر العظيمة، وبلوغ مكانتها المٌستحقة، ليس، فقط، كوجهة سياحية، وإنما كمقصد تاريخي وثقافي، لا مثيل له في العالم، ولتبدأ عهداً جديداً يعوض أهالي الأقصر عن فترة الكساد التي أعقبت أحداث يناير 2011، ولتقدم مصر للعالم، دليلاً، جديداً على عظمتها، رغم ما يمر بها من أحداث جسام، بفضل إرادة قيادتها وعزم أبنائها … فمرحباً، بالجميع، في أرض الحضارة والثقافة ومهد التاريخ والإنسانية.
Email: [email protected]