المنطقة الحرةشئون مصرية ومحليات

“قباري البدرى” يكتب لـ ” المحروسة نيوز ” ” قراءة تحليلية في المجموعة القصصية “الرجل الذي اكله الملح ” للأديب محمود الجمل

في يوم 8 أكتوبر، 2021 | بتوقيت 8:53 مساءً

بعد أن بعدت الشقة بيننا و بين آخر عطاءات محمود الجمل في مجال القص في الـثمانينيات من القرن الماضي ـ هاهو يعود للكتابة الأدبية بمجموعة لافتة للنظر ـ مضمونا وشكلا و إخراجا ؛ إذ أن الصحافة اختطفته طوال هذه الفترة الفارقة ـ حتى عاد إلى حديقة السرد القصصي ، ليغرد كما بدأ مطلع شبابه الثقافي ، مؤكدا أن ما الحب إلا للحبيب الأول .
ـ 1 ـ
الحقيقة أن المرحلة ( الصحفية ) من مسيرة ( الجمل ) الكتابية لم تكن عطلة مجانية ، مرت فيها موهبته بفترة كمون وجمود ، بل تمرينات مفيدة دربت قلمه على التدوين السريع ، وملاحقة الموضوعات، والاشتباك مع قضايا الواقع ،و تخلص من النزوع التجريبي (السريالي ) لا سيما في بداياته التي تصدرت المجموعة ( الخيول ) و ( الخطوات ) ؛ حيث سيطر الجو الكابوسي ، فلا حدود للقسوة ، و الجمل القصيرة المشهدية تؤطر الفضاء السردي و تملؤه
هذا الفضاء تسيطر عليه القسوة والجسدية المشوهة ، والحسية والعلاقات البائسة منذ الأسطر الأولى في مفتتح المجموعة ، بما فيها قصة ( المفقود ) : ” أتتها الركلة قاسية موجعة في منتصف بطنها ….”حتى آخر كلماتها “… يسقط بعد أن دقت العصا رأس الطفل ” حتى يشك قارئه في تأثره بمحمد الراوي ؛ لأن محمودا كان من مريديه لفترة طويلة ، لاسيما في العقد الذي نشر فيه القصص المشار إليها سالفا ( 1981 ، 1989 ) فالراوي رغم اتباعه للرواية الجديدة ، لم تحفل قصصه بهذا العنف . ولكن محمودا في النهاية امتلك مبكرا جرأة التجريب
هذه هي المرحلة الأولى في الثلث الأول من حياته الأدبية ـ و في مجموعته تلك ( الرجل الذي أكله الملح ) إذا شئنا التصنيف و التقسيم ، مع أن القاص المعني هنا لم يحفل بتقسيم مجموعته أو ترتيب أقاصيصها ، أو ( تزمين ) كتابتها [ أي الإشارة إلى زمن إبداعها أو نشرها ] ولكنا لن نستطيع إغفال هذه الثلاثية ( القسرية ) التي ننسب النصوص إليها : ( 1 ) مرحلة التجريب . ( 2 ) المرحلة الصحفية ( 3 ) المرحلة الإبداعية . و في كل تقسيم تميز الجمل بسمات : ففي المرحلة الأولى أشرنا إليها برز العنف والجوع والقبح والحزن ” مدينة منهكة “
تضم هذه التقسيمة الأولى قصص ( سونانور) ( الحمار الوحشي ) و ( الخلاء ) و( العزلة ) بالإضافة إلى ( إذا أقبلت )صاحبة عنوان المجموعة الثانية المنشورة 1989 ، و لا تخلُ إحداها من الوصف المبتور خارج سياق أي إحالات مرجعية ، مع جمل قصيرة ( إيجاز ) يزيدها غموضا بعض الهنات اللغوية ( الفكاك : جمع فكّ )، و(تصنع خليطا …؟؟ !!) ص 24 مما يعطل توصيل المضمون المرجو . كذلك تتركز الرؤية على الجسد والحسيات ، تغيب العلاقات والمواقف النامية . ويعنى فيها بأسطرة المشهد راسما صورة شعرية بطلها الملح ( سونانور ) .
ـ 2 ـ
من السمات الفنية التي تسم هذه القصص الأولى أيضا : الجو الفانتازي و رصد القوة / الضعف في مواجهة الواقع المحبط ، والعلاقات المهيضة ـ فالكاتب في هذه المرحلة لا يحفل بإنشاء نص واقعي ، بل يعمد إلى كتابة نثرية فنية ـ حتى لو خلصت إلى جو كئيب تسوده شخوص مترددة . مثل وصف الموت في ( الخلاء ) المقسمة لوحدات ، عبارة عن لوحات ثلاث مرعبة تترابط في جسديتها وعنفها ، و مواقف لا درامية . كما تمتاز بتكرار الظلمة في وصف الشوارع ، فقلما يصف البيوت .
و أخيرا هذا الميل الحداثي التجريبي تتأكد فنيته ، في لغته الشعرية ـ لا سيما مع التناص الدال في العزلة مع شعر العراقي ( خالد علي مصطفى ) ، إذا واصلت القراءة التصنيفية مسعاها الترتيبي ، ولكن المطالع لهذه المجموعة في ثلثها الأول لا يسعه ملاحظة اللغة السحرية ( لغة الرقى والتعاويذ و الأساطير ) و رصد نفثات الشياطين المحرضة ( إذا أقبلت ) ، ولعل التناصات المبهمة تزيد هذا الجو غموضا بشكل قصدي ، حيث يكتب العلاقات الشاذة الغريبة

الكاتب الصحفى والأديب محمود الجمل

ـ 3 ـ
مع هذه المرحلة السالفة المتميزة بفورة التجريب والحداثة تبزغ سمات المرحلة الجديدة عنده ( الواقعية ) الفنية ، وهي كما ذكرت بفضل معافرة العمل الصحفي . ظهر تباشير هذا في ( وردة لماجدة ) حيث سجلت أول خروج من السياق الوحشي إلى مسار فانتازي جميل ، وبعدها في ( الحمار الوحشي ) من خلال الخبرة بالمحيط الفيزيقي ( منطقة شميس ) و محتويات الشارع ، و مفردات الحياة الاجتماعية .
ولكن انتقاله الفني البارز في المجموعة كان في ( الرجل الذي أكله الملح ) إذ بدأ طرح حوادث فردية عابرة يصنع منها القاص دراما متفاعلة دالة في لغة سردية وصفية ، مجربا حداثة أخرى أيضا مختلفة عن حداثة وتجريب صديقه ( محمد الراوي ) و ( إدوار الخراط ) ، ليجرب سياقا يذكرنا بصنع الله إبراهيم . فمن خلالها يتعرف القارئ على ملحمة الجغرافيا السياسية للسويس ، و يطالع كيف يغلب حس الصحفي السياسي ، حين تتورط صراحته في مآزق المهنة ، وعندما يتخلى عن حذره . و يؤثر هذا الشكل ( القصة القصيرة ) على غيرها
عن حادث قتل تتبدى ملامحه بعيني القتيل ، ويكشف وقائع الفساد بالمدينة ، تأتي هذه القصة التي تحمل عنوان المجموعة ، عقب قصص حافلة بالرموز و المواربة ، تأتي هذه القصة بأسماء حقيقية ، في سياق خريطة السويس الاجتماعية والسياسية ، و دلالاتها الاقتصادية . هذه الوقائعية عطلت حضور الفانتازيا في الحادث ، و كبحت جماح الغرائبية التي ستطل برأسها ( و توقف المطر ، كشفوا الغطاء عني ، كانت جثتي قد اختفت )
كذلك في ( صنابير النار ) ـ ضمن هذا الإطار ـ مزج بين السياسي و القص الأدبي ـ عبر الصحافة التي أولجته في عتمة السجن ( بعد الموت في القصة السابقة ) ، ولكن عبر تتابع سردي غير متسلل في البداية . فهل هما قصتان تنتميان للواقعية السياسية ؟ أم نضرب صفحا عن التجنيس الأدبي . لأننا سنضطر للتساؤل عن حدود الخيال القصصي ، و السرد الذاتي ( البيوجرافي ) في ضوء الوصف الواقعي ، الموغل في اللغة المباشرة ـ بتواريخ حقيقية و أعلام وأماكن وتعبيرات شعبية ( شد ودن ) .ولكن النهاية تردنا إلى الطبيعة الأدبية ( لم أكن موجودا )
ـ 4 ـ
نصل إلى الجزء الثالث من المجموعة ( ليلة زفاف أسماء ) ، لنجدها أكثر النصوص ترابطا و إحكاما ، وتضم تسعة نصوص عن ( أسماء ) قد تشكل رواية قصيرة شبيهة ب( رامة والتنين ) ، لا تعوزها الشعرية والتأمل ، والحديث كمعظم النصوص بضمير المتكلم ، وإن تركز على شخص واحد . فهو منذ افتتح الجزء بقصة ( صديقتي تدخن ميريت ) و هو يتجول بأريحية واستعراض فني في أرجاء هذه الأنثى العجيبة المدخنة ، و سجائرها و شفتيها ـ في أحوال مختلفة . متقصيا أنواع المدخنات و طقوس التدخين و آثاره النفسية ، بعين أكثر خبرة جاءت اللغة في هذا الجزء أكثر فصاحة من القصص السابقة ؛ فصوت الراوي الواعي هو المهيمن ، مع الاحتفاظ بالخواتيم المفاجئة للقصص محيرة مقلقة ، ولكن ليست مفتوحة ، بل مشرعة على أسئلة كثيرة ( آخر الكلام : الكرة في ملعبك … لم يبق سوى الإيجاب والقبول .) ولكن يستطيع المزج فيها والانتقال بين عبارات شعرية و ألفاظ دارجة و عبارات مستجلبة من مجالات سياسية وعسكرية (مركزي استراتيجي تكتيكي ) في ثقة و بناء محكم ، بالتركيز على الشفاه ( مدخل الوجه و بوابة الرأس البشري ) في ترابط ملفت للنظر
4ومع هذه الشعرية السنتمنتالية لا يغرق في التحليق الرومانسي ، بل يستغرقه خطاب رهيف يشرّح هذه العلاقة الحميمة مع الجنس الآخر . فسيطر حضور ( أسماء ) كأن اسمها ( الجمع ) وصفاتها الراقية النموذجية ـ جمعا أيضا لصفات الكمال الأنثوي ، فجاءت كتابة من أنضج النصوص و أكثرها تماسكا . فحول الدخان انعقدت المحبة و بسببها ( تظل روحه متعلقة بعاشقة الدخان ) ، رغم الصفات الجسدية المنتشرة في ثنايا النصوص ، والمثالية
من حقنا أن نسأل ( هل أسماء باسمها و رسمها شخصا حقيقيا أم رمزا ؟) لأن العلاقة متميزة راقية . ولكن للأسف تظل العبارات تدور حول نفسها ، فقد تأخر الخيط الدرامي كثيرا حتى ظهور ( وهم أسماء ) و انبثاق حدث ـ أفلت من التكرار ، الذي يجعل النص يكاد ينتمي إلى الشعر الغنائي الغزلي و إن كان نثريا . أو رواية قصيرة كانت تستحق مع مزيد من التقصي كتابا مستقلا . بعد أن تناول مفردات المحبوبة المفتون بها ( التبغ ـ القطط ـ عيونها ـ صوتها ـ فرحها ـ ليلة زفافها ) . و لو أن خبرة الكاتب الأدبية لغويا أسعفته لصار إلى ملحمة رائعة
ـ 5 ـ
لا يدع محمود الجمل شكلا أدبيا يسيطر عليه ( قصة أو شعر أو رواية أو تحقيقا صحفيا .. ) و لا يسمح لانتماء أو هوية تهيمن على وجدانه المثقف ، و لا حزب سياسي أو كيان اجتماعي يحتويه . إنها الحرية : هذا الهاجس الذي يسكنه ، و لا يتركه يقع أسيرا لأية إطار . كما وجدنا في نصوصه : التنوع اللغوي بين الفصحى والعامية ـ التردد بين المثالية و الحسية ـ تقديس الأنثى تقطعه التعبيرات الذكورية [ أكون المفتاح الذي يلج بابها … ] فيراوح بين الملهمة و الجسد . الحقيقة والوهم . حتى المثال الرفيع ( أسماء ) أسقطها بلا أسف ، لأنه يأبى القيود .

مقالات ذات صلة