آثار ومصريات

“الدكتور محمد عبد اللطيف” يكتب لـ ” المحروسة نيوز ” سلسلة حلقات توعوية آثرية بعنوان ” حكاية آثر ” : “الـدير الأبيـض أو دير الأنبا شنوده بسـوهـاج “

في يوم 21 يناير، 2021 | بتوقيت 1:00 مساءً

 الـدير الأبيـض أو دير الأنبا شنوده  يبعد هذا الدير عن مدينة سوهاج بحوالى ثمانية كيلومترات. والسبب فى تسميته بهذا الاسم ربما يرجع إلى أنه مشيد أغلبه من الحجر الجيرى ، وينسبون بناءه إلى الأنبا شنوده حوالى القرن الرابع الميلادى ويخيل إلى من يشاهد ذلك الدير وهو مقبل إليه كأنه ينظر إلى معبد عظيم من معابد الفراعنة التى أنشئت قبل الميلاد بمئات من السنين على طراز معابد مصر القديمة. وهذا النمط الذى اتخذه الرهبان فى تشييد هذا الدير جعله ينفرد على سائر الأديرة العديدة التى أقيمت فى وادى النيل فى نظام المبنى وخواصه.

على أن معظم الأحجار التى استخدمت فى بنائه إن لم تكن جميعها قد أخذت من معابد وأطلال مصرية قديمة كانت قائمة على مقربة من الدير ، بدليل ما يشاهد على سطوح تلك الأحجار من الرسوم والكتابات الهيروغليفية العديدة – وقد لجأ الأقباط إلى إخفائها عن الأعين بتغطيتها بالملاط أو بطبقة من الجبس ولما سقطت القشرة التى كانت عالقة بتلك الأحجار ظهرت الرموز والرسوم المصرية القديمة واضحة تماماً. ويلاحظ أنه يتخلل البناء أحياناً كتلاً ضخمة من الجرانيت الأسود أو الوردى ومعظمها يحمل النقوش والكتابة الفرعونية. وهذه الكتل الصخرية ظاهرة بوضوح فى أكتاف وأعتاب الأبواب الخارجية لهذا الدير. ولم يكتف مشيدو الدير بأخذ مواد البناء من المعابد المصرية القديمة فحسب بل طبقوا الطراز المصرى القديم تماماً واتخذ المعماريون أول ما وقع بصرهم عليه عندما شرعوا فى تشييده ، فمنه اقتبسوا وعليه اعتمدوا ، كما يجب ألا ننسى أنهم أحفاد المصريين القدماء. فورثوا عن معمارى أجدادهم القدماء كثيراً. ومهما طرأ على نظام المبنى من التغيير فى شكله فلابد من أن يصطبغ بالطراز المصرى القديم فى روحه وطابعه.

أما الأبواب الخارجية لهذا الدير فظاهر منها خمسة ، ومنهم أربعة أبواب مسدودة بكتل حجرية أما الباب الخامس منها فهو الباب الموصل إلى داخل الدير. وعتبة ذلك الباب والأكتاف من حجر الجرانيت الوردى وفى وسط العتبة العليا رسم بارز للصليب داخل إكليل دائرى. أما توزيع الأبواب فهو كالآتى: بابان فى الجهة الغربية ومثلهما فى الجهة القبلية وآخر كبير يقع فى منتصف الجدار البحرى للدير.

ويتخلل الجدران الخارجية للدير فى الأجزاء العليا منها نوافذ ضيقة ، ويظهر أنها كانت تستعمل كطوابى يراقب منها الرهبان حركات العدو من الأعراب الذين كثيراً ما كانوا يسطون على الدير لنهب ما فيه. ويشاهد بعد الدخول من بابه العمومى صالة مستطيلة يتخللها على يمين الجدار أقواس تعلوها كرانيش ذات نقوش وزخارف نباتية جميلة منحوتة على الحجر الجيرى. ثم يوجد على جدران تلك الساحة “قبلات أى شرقيات” عديدة بوسطها نقوش وزخارف متنوعة – فمنها ما يتوسطها شكل القوقعة “Shell” ومنها ما بوسطه أغصان الكروم المورقة ويتدلى منها عناقيد العنب كما أن الأغصان تخرج من أوانى بعضها فى بعض ويتوسطها صليب صغير داخل إكليل دائرى. والقبلتان اللتان لهما شكل القوقعة فى تلك الصالة تقومان كلا منهما على عمودين مستديرين من حجر الجرانيت الأسود.

وفى إحدى جوانب تلك القاعة “ناووس” يكاد يكون كاملا من حجر الجرانيت الأسود وعليه النقوش والخراطيش والكتابة المصرية القديمة مما يدل على أن رهبان الدير كانوا قد حملوه إلى الدير من أحد المعابد المصرية القديمة التى كانت مجاورة لهم للاحتفاظ به لديهم. مع العلم بأن ذلك الناووس كان يتخذه كهنة الفراعنة ليحتفظوا فيه بتمثال معبودهم الذى كان يوضع فى أقصى القاعة الداخلية فى المعبد ، والتى كانت تعرف ، “بقدس الأقداس”. وكان التمثال الذين كانوا يضعونه داخل الناووس المذكور يصنع عادة من الذهب الخالص.

ثم ننفذ بعد ذلك إلى صالة أخرى مستطيلة الشكل ، ويشاهد على جدرانها من حين لآخر القبلات. ومنها قبلة غريبة الشكل وفى تجويفها الأعلى نسر باسط جناحيه ثم أشبه بتاج فوق رأسه وهو داخل إكليل ، وخارج هذا الشكل طاووسان متعاكسان فى وضعهما وفوقهما أفرع نباتية. وعلى الكورنيش الأعلى الخارجى للقبلة غزالان فى حالة عدو أو حركة بين فرع نباتى.

وفى وسط تلك الصالة لاتزال فيها بعض الأعمدة القائمة من الجرانيت الأحمر، ثم أعمدة مبنية بالطوب الأحمر من الخارج. أما باطن تلك الأعمدة فيظهر أنها من الرخام أو الجرانيت ، ثم نرى فوق بعض تلك الأعمدة تيجاناً من الجرانيت على جانب كبير من دقة الصنع وجمال النقش ، وأن عدداً كبيراً من تلك التيجان الجرانيتية الضخمة ملقى على أرضية تلك الصالة الوسطى وعلى بعض التيجان شكل بارز لوجه آدمى وحول رأسه أشبه بإكليل ويتدلى من رقبته أشبه بعمود كالقصبة الهوائية. أما النقوش البارزة الأخرى التى تزين تلك التيجان فهى رسوم نباتية منها نبات الأكانتس. وتحوى قبابها من الرسوم الملونة على طبقة من الجبس أشكالاً زخرفية جميلة ولو أن معظمها قد زال من تأثير الدخان الذى طمس معالم الكثير من تلك الرسوم. على أن الصليب يشاهد فى وسط شكل أشبه بالسرة.

أما عن الكنيسة التى فى هذا الدير فهى غريبة فى نظامها وطرازها ، كما تختلف عن النظام الملاحظ فى كنائس مصر القديمة التى تعاصر تقريباً لكنيسة هذا الدير ، فمما يلاحظ عند الدخول إليها قبتان كاملتان فى الوسط الواحدة تلى الأخرى ، ثم تليهما الهيكل وفوقه قبة نصفية الشكل مرسوم على أحد جدرانها صورة رائعة بالألوان من نوع الفرسكات وتمثل السيد المسيح جالس على العرش ويمسك بيده صليبا جميل الصنع بالألوان قوامها اللون الذهبى. وحول العرش صورة الأربعة حيوانات فى أشكال غريبة تخالف ما تعودنا رؤياه على صور الأيقونات المرسومة على اللوحات الخشبية ثم حوله صور أخرى لعلها للرسل أو لبعض القديسين. وعلى الجانب الأيمن من الهيكل جناح على شكل نصف دائرة وتعلوه أيضاً قبة نصفية تساوى فى ارتفاعها للقبة النصفية التى تعلو هيكل الكنيسة الوحيد وفى داخل هذا الجناح ستة أعمدة متوسطة الحجم من الجرانيت ذات تيجان منقوشة وقواعد. وبين تلك الأعمدة وبعضها قبلات ، وفى الجزء العلوى منها أشكال القواقع ورسوم أخرى. ثم تعلو الأعمدة كرانيش من الحجر مزينة بالنقوش والرسوم الزخرفية ، ثم يعلوه أيضاً أعمدة أخرى أصغر حجما من الأولى ذات تيجان ويتخللها أيضاً أشكال القبلات الصغيرة ذات الزخارف والنقوش البديعة أما القبة النصفية لهذا الجناح فتزدان برسوم ملونة قوامها صليب كبير الحجم ويرتكز عليه أشبه برداء وحول الصليب أشبه بسيدات وأشخاص الرسل والقديسين. وهذا الجناح الأيمن للهيكل مخصص لجلوس النساء أثناء الخدمة والصلاة.

أما الجانب الأيسر للهيكل فيحوى جناحا أشبه بالجناح الأيمن إذ تعلوه قبة نصفية ثم توجد به خمسة أعمدة متوسطة الحجم من الجرانيت ذات تيجان ثم تعلوها كرانيش من الحجر الجيرى ويتخللها أشكال صلبان وقبلات وفى أعلاها نقوش لقواقع أو أفرع الكرم التى تخرج من فوهات أوانى بديعة الصنع ويتدلى من بين الأفرع عناقيد العنب. وفى وسط إحدى القبلات توجد كتابة قبطية باللون الأرجوانى ومعظم حروفها مفقودة. ثم يعلو الكورنيش أعمدة أصغر من الأخرى ذات تيجان صغيرة وفيما بينها نشاهد القبلات أيضاً. أما القبة النصفية فى هذا الجناج فلا تحوى رسوماً مثل ما لوحظ فى القباب النصفية الأخرى. وعلى غالب الاحتمالات أنها زالت أو طمست معالمها بعد طلاء القبة بالجبس أو الملاط.

ونشاهد فى داخل الهيكل ستة أعمدة من الجرانيت ذات تيجان مختلفة الأشكال والنقوش ، وفوق تلك الأعمدة كورنيش من حجر الجرانيت الأسود يزدان بنقوش زخرفية نباتية ثم تعلو الكورنيش عدة أعمدة أخرى ذات تيجان أصغر من الأولى كما شوهد ذلك فى الجناحين المجاورين للهيكل. وفى وسط بعض الأعمدة يوجد رسم بارز للصليب. وللهيكل حجاب من الخشب المطعم بالعاج البسيط وتعلوه أيقونة تمثل الأنبا شنودة وتلميذه ويصا. وهى من رسم انستاسى القدسى الرومى ويرجع تاريخها إلى عام 1862م.

ومن طريف ما يلاحظ أيضاً فى أقسى الناحية الغربية القبلية من الدير الأبيض وبالقرب من الساقية قبة كبيرة مبنية من الطوب الأحمر بترتيب دقيق ، ولاتزال آثار الرسوم الملونة التى كانت تزينها باقية عليها إلى الآن.

أما عن هذه الكنيسة فهى آخر المبانى الباقية من الدير الأبيض وقد قام بتأسيسها الأنبا شنودة نفسه حوالى عام 441 م حينما كانت المؤسسة الديرية فى عز مجدها ولذلك لا غرابة فى أنها كانت أعظم مبانى الدير وأبقاها على الزمن وإذ اندثرت جميع تلك المبانى بسبب ما طرأ عليها من أحداث الزمان. فقد ورثت هذه الكنيسة اسم المؤسسة كلها وأصبحت تعرف بالدير الأبيض. وهى تعد من أعظم وأهم الكنائس المسيحية الأثرية معمارياً ،  ولاشك أنها تمتاز بتصميم بارع ومبتكر ، وهى على الطراز البازيليكى الفاخر أى لها صحن وجناحان وهيكل على شكل صليب. وتمتاز باتساعها الكبير ورحابة مبانيها إذ يبلغ طولها 75 متراً وعرضها 37 مترا وارتفاع جدرانها 20 مترا مما جعلها تبدو من الخارج كأنها أحد القلاع العظيمة أو أحد المعابد المصرية القديمة. هذا وقد عفت يد الزمن على كثير من مبانيها فلم يبق منها الآن سوى هياكلها ، وهى المستعملة الآن كنيسة حيث لا تزال تقام فيها الشعائر الدينية حتى الآن.

https://fb.watch/379FmjjQgr/https://www.facebook.com/CTVegypt/videos/2799649363584790

الأستاذ الدكتور محمد أحمد عبد اللطيف
الأستاذ الدكتور محمد أحمد عبد اللطيف

بقلم

الدكتور محمد أحمد عبد اللطيف

عميد كلية السياحة والفنادق جامعة المنصورة

أستاذ الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية بجامعة المنصورة

مساعد وزير الآثار السابق

رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية الأسبق

بالمجلس الأعلى للآثار