مصر هي التي صدّرت الحياة الرهبانية والديرية التي نشأت على أرضها في القرن الثاني والثالث الميلاديين إلى العالم أجمع، فأول راهب في العالم هو المصري القديس الأنبا أنطونيوس الكبير، أب جميع رهبان العالم.
كما أن نظام “حياة الشركة” التي تسير عليه معظم أديرتنا القبطية في مصر وفي الخارج، هو من وضع القديس باخوميوس في القرن الرابع الميلادي ونسمّيه “أب الشركة”.
وحول هذا التراث الغالي لنا عدة ملاحظات هامة:
1- إن الأديرة القبطية الأرثوذكسية تراث مصرى أصيل، إذ نشأت الرهبنة على أرض مصر أولًا منذ القرن الثالث الميلادي، ثم امتدت إلى كل العالم بدون استثناء. وتاريخ الأديرة يمتد إلى 17 قرنًا من الزمان. وطبيعة الرهبنة القبطية وفقًا لتقاليدها الرهبانية ومبادئها الروحية الراسخة تقوم على حياة الهدوء والسكون والعبادة للارتباط بالله الواحد. وعاش الآباء الرهبان حياة نسك وزهد بنظام روحى نسكي استقر في حياة الكنيسة ومستمر حتى الآن.
2- قداسة البابا هو الرئيس الأعلى لكل الأديرة القبطية، ويفوِّض لكل دير رئيس أن يدبّر حياة الدير والرهبان روحيًا وإداريًا وماليًا وتنظيميًا ومعيشيًا، ولكل دير هيكل إدارته الخاص به.
3- رهبان الأديرة مواطنون مصريون خاضعون للقانون العام، ويتعاون كل دير مع المؤسسات الحكومية كل في نطاقه، ورئيس الدير هو المسئول عن كافة العلاقات مع مؤسسات الدولة بحسب تخصصها.
4- بحسب المادة الثالثة من الدستور المصري الذي يعطي الحق للمسيحيين في اتباع شرائعهم وتقاليدهم في إدارة شئونهم، وبالتالي ليس مقبولًا تدخُّل أيّة جهة في إدارة الأديرة تحت أيّ مُسمّى.
5- هناك فرق قوي بين التراث الإنساني المادي والحجري والذي تشرف عليه وزارة الآثار والسياحة باعتباره آثار لا يوجد من يرعاها أو يصونها. أمّا الأديرة فهي تراث إنسانى “عامر بسكّانه من الرهبان”، ويشرف عليه الرهبان جيلًا بعد جيل عـبر 17 قرنًا من الزمان، وحافظوا عليه وصانوه من كل ناحية، ولا يصحّ أن يُعامَل معاملة الأحجار والآثار الصماء.
6- القرار الجمهورى رقم 550 لسنة 2018م اهتم بإدارة مواقع التراث العالمي التي لا تجد من يرعاها أو يهتم بها، وهذا لا ينطبق على الأديرة المحفوظة منذ قرون برهبانها القاطنين فيها، وقبل أن توجد وزارة للآثار نفسها في مصر كراعـية للآثار، أو منظمة اليونسكو على مستوي العالم.
7- رغـم أن لكل دير رئاسة دينية وهيكل إدارة يشرف على كل النواحى الإدارية فى حياة الرهبان اليومية (من غذاء ودواء وملابس وكافة الاحتياجات الإنسانية)، كما يقوم الدير حسب التقليد الرهباني بتوزيع الأعمال اليومية على الرهبان حتى يفي الدير باحتياجات أبنائه، إلّا أنه توجد لجنة مجمعية (من المجمع المقدس أعلى سلطة في الكنيسة القبطية) تشرف على سلامة الحياة الرهبانية في كل الأديرة بدون استثناء، مع حل أيّة مشكلات تظهر في الأفق.
8- للأديرة القبطية دور وطني متميِّز، حيث أن من مبادئ الرهبنة القبطية القيام بأعمال يدوية وإنتاجية، وانعكس ذلك بقيام الرهبان بتعـمير بعض البُقع الصحراوية، والقيام ببعض الأعمال الإنتاجية، مما يسهم فى تعمير وتنمية المجتمع والوطن.
9- بالطبع دخول منطقة وادى النطرون (الإسقيط = مكان النُسك) إلى مواقع التراث العالمي في هيئة اليونسكو أمر مُشرِّف وإضافة لبلادنا مصر. ولكن نرى ألّا يكون هذا الدخول على حساب الحياة الرهبانية المستقرة والهادئة، وعلى حساب الإدارة الكاملة لكل دير من خلال قداسة البابا ورئيس الدير والآباء الرهبان.
10- نأمل ان تهتم وزارة الآثار والسياحة بالآثار القبطية (الأديرة والكنائس) التي لا تجد من يصونها ويحفظها ويقوم بصيانتها. وأمّا أديرتنا العامرة فهي محفوظة بفضل الحياة الرهبانية التي لم تنقطع يومًا فيها، ولا يجوز بعد هذه القرون الطويلة أن يتم التدخل في شئون الأديرة والرهبان تحت أي مُسمّى.
11- إن الكنيسة القبطية لم تتأخر يومًا عن دعم مشروعات الترميم الخاصة بالأديرة تحت إشراف قطاع الآثار الإسلامية والقبطية.
12- الكنيسة القبطية معروفة بمواقفها الوطنية الراسخة وأدوارها المجتمعية، والأديرة هي تراثها الغالي جدًا على المستوي المصري والمستوى الكنسي، ولها أثرها الروحي العميق في حياة الأقباط والشعب المصري بصفة عامة، وأيّة إجراءات محلية أو دولية بخصوصها يجب أن تراعي كافة الجوانب المتعلقة بالموضوع ودون أي مساس بالحياة الرهبانية والديرية بأيّة صورة من الصور.
في القرن الرابع الميلادي زار القديس يوحنا ذهبي الفم من القسطنطينية منطقة الإسقيط (وادي النطرون)، وعندما عاد بلاده قال: “السماء بكل نجومها ليست في جمال برّية مصر بكل رهبانها ونُسّاكها”.
حفظ الله مصر بتراثها الغالي
كاتب المقال
قداسة البابا تواضروس الثاني
بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية