وقفنا في المقال السابق عند الحديث عن مانيتون السمنودى وما رواه عن نفسه
فيقول: انا مانيتون السمنودى صاحب كتاب الجبتانا اسفار التكوين المصرية، ولا أعرف عن طفولتي سوى ما سمعته من معلمي وأبي الروحي كاهن معبد مدينة منديس الذى قص على قصو طفولتى
فقال:سلمك لي فلاح من البحيرات الشمالية وأنت في الخامسة من عمرك،وكانت تبدو عليك ملامح الذكاء والنجابة،
ولما سألوا الفلاح من أكون،قالوا بأني ابن الإله حورس الذي زاره وسلمني له وأوصاه برعايتي.منذ تلك الحكاية أصبحت ابنا لمعلمي الذي علمني القراءة والكتابة بعدة لغات،كما علمني الطبابة والسحر والكهانة.
ولدت مختوناً وعشت في معبد سمنود ذي الأسوار السبعة،وتعلمت وعلمت،وعرفت أسماء جميع الآلهة،وقرأت كافة الألواح المرسلة من الآلهة،حتى أصبحت كاهناً وأنا في الثامنة عشرة من عمري .
كما أنني لم أذق في حياتي سمكاً أو لحم خنزير،وحياتي التي عشتها في زمن الإسكندر الأكبر وزمن خلفائه من المقدونيين (البطالمة) كان زمناً آمناً لي،خاصة أنه تهيأ لي أن أتعلم في معبد الإسكندرية وجامعتها ومكتبتها
في النهاية وبعد أن أتقنت حينها كل الخطوط المصرية،وكتبت بها،مع الإغريقية والفينيقية والعبرية والآرامية والسريانية.
وبعد أن زرت معابدهم جميعاً،واطلعت على ألواح الشعوب وما تركوه وكتبوه.
حينها أمرني الملوك البطالمة بأن أكتب تلخيصاً كاملا لتاريخ مصر وآلهتها وأسرها منذ (عحا) المحارب الملقب بـ (نعرمر) إلى وصول الإسكندر.
وهذا ما دفع الكثيرين من علماء الاثار بان يقولوا بان الملك (نعرمر)هو نفسه الملك عحا، لان هذا اللفظ يعنى المحارب وقد كان الملك (نعرمر) محاربا بالفعل وكما قص علينا ذلك في لوحته الشهيرة المعروضة باالمتحف المصرى.
وهنا نتوقف عند مدينتين احدهما كانت مولده حتى الخامسة من عمره وهى مدينة (سمنود) التابعة لمحافظة الغربية الان وتربى في معبدها حتى سن الخامسة ثم اخذه فلاح وسلمه لكاهن معبد منديس؟
فلماذا هذا الفلاح لم يروى لكاهن المعبد عن اصله وفصله وكيف انتقلت من هناك الى هنا؟ ..فهذه النقطة والملاحظة الهامة لها فكرا فيما بعد وخاصة انه طوال حياته يدعى بانه ابن مدينة سمنود؟.
وكذلك هل لذلك علاقة بنهاية مدينة سمنود ولم يصبح لها شانا في تلك الفترة؟.
فلو قرانا في تاريخ مدينة سمنود التي كانت تعرف آنذاك باسم (سبننوت) فقد انتهى تاريخها كاملا مع نهاية عهد الاسرة 30 وخاصة في عهد الملك نختانبو الثنى وذلك في عام 343 قبل الميلاد.ففى تلك الفترة أصبحت مدينة مهملة تماما وكذلك معبدها الشهير والذى له نصوص مكتوبة في الاثار المصرية.
واحتمال بان يكون هذا افلاح المجهول قد وجده طفل بلا اسرة في هذا المعبد واخذه الى كاهن معبد منديس،والاحتمال بان يكون هذا الفلاح هو والده فعلا،وخشى عليه من المجهول فاخذه ونذره الى معبد منديس وهكذا.فكلها تساؤلات محيرة لا نجد عليها إجابة ونتطرق اليها منطقيا كمحاولة للوصول الى حقيقته او على الأقل صباه.
على العموم وصل مانيتون السمنودى وهو في الخامسة من عمره الى منطقة منديس وتربى في معبدها.ومدينة منديس هي الان منطقة (تل الربع) التابعة لمركز تمى الامديد بمحافظة الدقهلية، وتبعد حوالى 17 كم عن مدينة المنصورة عاصمة المحافظة.
كانت هذه المدينة منارة للحضارة بمصر القديمة،وربما ترجع إلى عصور ما قبل الأُسرات،وفق ما أشار إليه عالم المصريات (روفورد) الذى كان قد أقام حفريات بهذه المدينة عام 1980،حيث ذكر أن هذه المدينة ترجع إلى عصر نقادة الثالثة،مما يؤكد أن هذه المدينة من أقدم مدن الدلتا.
كما وصلت هذه المدينة إلى درجة عالية من الرخاء فى نهاية عصر الدولة المصرية القديمة،حيث كانت تقع على الفرع المنديسي لنهر النيل،وكان هذا الفرع يصب فى البحر الأبيض المتوسط،ثم أخذت شهرتها تتراجع فترة الدولة الوسطى وفترة احتلال الهكسوس، وازدهرت مرة أخرى فترة حكم الأسرة السادسة والعشرين والدليل على ذلك الناووس الضخم الذى أقامه الملك أحمس الثانى.
كما عادت المدينة مرة أخرى لتكون عاصمة للبلاد فترة حكم الأسرة التاسعة والعشرين،والتى كانت لها الفضل فى التخلص من الاحتلال الفارسي على يد ابن مدينة منديس الملك نفرتيس الأول مؤسس الأسرة التاسعة والعشرين ومخلِّص مصر من الفرس .
لكن لم تدم هذه المدينة باقية بعد الأسرة التاسعة والعشرين والأسرة الثلاثين حيث دمرت عام 338 قبل الميلاد على يد (أرتا إكسركيس) ملك الفرس فى ذلك الوقت،ثم يأتى الملك بطليموس الثانى ليعيد بناء معابد هذه المدينة ويقوم بالاحتفال بتنصيب الكبش معبود مدينة مندس،وخلد ذلك بإقامة لوحة مندس،ويسجل هذه الاحتفالية على اللوحة
من ناحيته أكد الدكتور محمود المحمدي،ابن محافظة الدقهلية والحاصل على الدكتوراه فى علم المصريات واللغة المصرية القديمة،أن تلك المدينة كانت مركزًا لصناعة الخمور والعطور التى كانت تصدر مباشرة إلى أثينا،وظلت هذه المدينة فى هذا الازدهار إلى أنْ حدث جفافٌ لفرع النيل المسمى بالفرع المنديسى،وهجَرها سكانها عام 200 قبل الميلاد
وأضاف أن هذه المدينة عُرفت فى اللغة المصرية القديمة باسم جدف أي (بيت الروح) وعُرفت عند الآشوريين باسم (نيتيتى) وعند اليونانيين باسم (مندس) التى تَعني معبود المدينة،وأطلق عليها العرب (تل ابن سلام) نسبة للصحابى الجليل عبدالله بن سلام والذى دفن فى هذه المنطقة.
ومعنى ذلك ان هذه المدينة كانت أيضا مدمرة في عام 338 وكما في التاريخ على يد الملك الفارسى (ارتاكسركيس) ولم تظهر لا هي ولا معبدها ثانيا الا بعد وصول بطليموس الثانى الى عرش مصر.يبقى هنا السؤال لماذا أوصل هذا الفلاح هذا الطفل مانيتون أصلا الى هذه المدينة المدمرة ومعبدها المتهدم بيد الفرس؟؟
في حقيقة الامر اننى اهتممت كثيرا بتاريخ مانيتون وبحثت كثيرا عن سيرته،لانى بتشكك أصلا في الكثير من كتاباته بخلاف طبعا تاريخ الاسرات والذى لا شك فيه ومتفق تماما مع الكشوف الاثرية الحديثة والقديمة.
ولكن تشككى فيما كتبه أصلا عن الالهة المصرية وغيرها من الأشياء المصرية المغايرة لحيقة التاريخ المصرى وكما كتبنا من قبل وخاصة انه صاحب مقولة شعيرة وهى (ان اتلمصرى القديم كان عابدا للحيوان)
وفى ذلك حديث اخر مع المقال القادم. والى لقاء مع المقال القادم باذن الله ونواصل تاريخ مانيتون السمنودى
كاتب المقال
الباحث الاثارى والمرشد السياحى
أحمد السنوسى