بأقلامهم

” اللواء الدكتور سمير فرج ” يكتب لـ ” المحروسة نيوز ” : عندما ركبت الطائرات الهليكوبتر مرتين (1)

في يوم 6 ديسمبر، 2025 | بتوقيت 2:05 صباحًا

في حياتي ركبت مئات الرحلات الجوية بالطائرات، أكثرها فترة خلال سبع سنوات، مديرا للشئون المعنوية، سواء إلى خارج مصر أو داخل مصر، وخاصة اثناء رحلات المرور مع السيد المشير حسين طنطاوي، وحضور أنشطة القوات المسلحة ولو على الأقل رحلاتها الأسبوعية سواء بالطائرات السوبر جت الصغيرة الفرنسية، أو الطائرة الهليكوبتر للمناطق التي ليس بها مطارات.

ولكن في حياتي الطويلة، هناك رحلتان بالطائرة الهليكوبتر لا يمكنني أن أنساهما.

الأولى عندما كنت قائد لواء مشاة ميكانيكي في منطقة الصحراء الغربية، حيث كانت الأرض هناك مسرحًا للقتال في الحرب العالمية الثانية، بعد أن عبرت القوات الألمانية بقيادة روميل الصحراء، وواجهتها القوات البريطانية بقيادة الجنرال الإنجليزي مونتجمري، وكانت معاركهم تدور في منطقة العلمين.

خلال تلك الفترة كان كلا الجانبين يهاجم ثم ينسحب، وخلال تلك المعارك زرع الجانب الألماني العديد من حقول الألغام، وكذلك القوات البريطانية. ولسرعة وتيرة القتال وقتها، كانت الألغام تُزرع على عجل، من غير تسجيل أو خرائط، وهو ما عُرف فيما بعد بـ”الحقول المبعثرة”. وعندما انتهت الحرب وانسحب كل جانب من الصحراء الغربية، سواء الألمان أو الإنجليز، ظلّت الصحراء الغربية في مصر مليئة بتلك الحقول.

المشكلة أن لا أحد يعرف خرائط هذه الحقول حتى يمكن إزالتها، وظل بعضها يعرّض أهالي الصحراء الغربية في مصر للخطر. كان البدو إذا اكتشفوا حقل ألغام، يعرّفون الجميع أن هذه منطقة خطرة، ومع مرور الوقت وتآكل الألغام، أصبحت شديدة الحساسية، لدرجة أن مرور الأغنام عليها يؤدي لانفجارها، حتى لو كانت ألغامًا مضادة للدبابات.

ولقد حاولت الدولة المصرية، الاتصال بألمانيا وإنجلترا لمعاونة مصر في إزالة هذه الألغام، التي تعوق عمليات التنمية في المنطقة، سواء في التنقيب عن البترول أو حتى الزراعة. خاصة أن حوادث هذه الألغام كثرت بين الأهالي. لكن يا للأسف لم تفعل هذه الدول شيئًا، لأنها تعلم أن العملية صعبة للغاية وسوف تتكلف مبالغ طائلة وأرواحًا كثيرة، خصوصًا أن معظم هذه الألغام ليس لها أوراق تسجيل. لذلك اكتفى كل طرف بإرسال مبلغ من المال لشراء معدات يتولى الجيش المصري استخدامها في تطهير هذه الألغام.

وفى أحد الأيام … وأنا أجوب بسيارتى العسكرية، فى تلك المنطقة، لإجراء أحد التدريبات، وخلفى صف طويل من السيارات التى تقل القادة والضباط بالمنطقة … فجأة… حدث انفجار كبير … لقد وطأت عجلات سيارتي على واحد من تلك الألغام المضادة للدبابات، فطارت السيارة فى الهواء، وأظلمت الدنيا من حولنا.

هوت السيارة من ارتفاعها، وارتطمت بالأرض… وسمعت أصواتا تنادى من خلفى: «محدش يقرب … ده حقل ألغام»، إلا أن رئيس العمليات اندفع داخل الحقل، وسحبنى للخلف، ثم دخل مرة أخري، ليحمل السائق، الذى ارتفع صراخه … لقد بُترت، مع الأسف، ساقه اليسري، نتيجة لاصطدام السيارة باللغم من الجهة اليسري، أسفل مقعده.

أما أنا فقد أيقنت أن الدنيا اظلمت نتيجة لكثافة الغبار الناتج عن الانفجار، فحسب، وإنما نتيجة إصابة عيني. انطلق الجميع فى اتجاه أقرب مستشفى عسكرى فى المنطقة، لإجراء الإسعافات الأولية.

فى تلك الأثناء، كان رئيس العمليات قد أبلغ القيادة بالحادث، وطلب ضرورة نقل الحالتين إلى القاهرة. وصلت الطائرة الهليكوبتر، من القاهرة، إلى مستشفى سيدى براني، بعد أربع ساعات من البلاغ، وحملتنا النقالات الطبية، أنا والسائق، على متنها، قبل أن تحلق، مرة أخري، متوجهة إلى القاهرة، فى رحله مدتها أربع ساعات، كانت هى الأطول فى حياتي.

مرت الساعات كأنها سنوات، وأنا أرثى لحال السائق الذى يعلو أنينه على صوت محركات الطائرة الهليكوبتر الروسية الصنع من طراز «مى 8». ومن ناحية أخري، كانت الهواجس تتملكنى … هل فقدت نظري؟ هل صرت ضريرا؟ هل تغيرت حياتى اعتبارا من اليوم؟ … فرفعت الضمادات من على عيني، قليلا، بحثا عن بصيص أمل، فلم أر إلا ظلاما!

ووصلنا الى مطار الماظة بالقاهرة تفرقنا، أنا والسائق، كل منا فى غرفة عمليات منفصلة، ومعه طاقم الأطباء الخاص به.

وفي مستشفى كبري القبة أننى مكثت ثلاث ساعات بين يدي طبيب العيون، عمل خلالها، هو وطاقم المساعدين، على استخراج جميع الشظايا الصغيرة من عيني، سواء الأتربة، أو حطام الزجاج الأمامى لسيارتى العسكرية، أو مخلفات اللغم المنفجر.

خرجت من غرفة العمليات، وكتب الأطباء تقاريرهم المختلفة، وجاء تقرير طبيب العيون بأن قوة الموجة الانفجارية، أدت إلى حدوث نزيف داخلى بالعين، بمعنى أن العين قد امتلأت بالدماء من الداخل، مما أدى لفقدان البصر الذي يأمل الطبيب في ان يكون حالة مؤقتة تزول بزوال العرض.

وهنا، قرر الطبيب ان ننتظر نحن الآن لتدخل رب العباد، حيث سيمتص الجسم هذه الدماء والا سنضطر للتدخل الجراحي، وجاءت مشيئة الرب لأن الجسم امتص الدماء ولم نلجأ للتدخل الطبي، وفي مقالتي في العدد القادم مسرد قصة الرحلة الثانية في حياتي للطائرة الهليكوبتر.

كاتب المقال

اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج

Email: [email protected]

واحداً من أهم أبناء القوات المسلحة المصرية

ولد في 14 يناير في مدينة بورسعيد، لأب وأم مصريين.

تخرج، سمير فرج، من الكلية الحربية عام 1963.

والتحق بسلاح المشاة، ليتدرج في المناصب العسكرية حتى منصب قائد فرقة مشاة ميكانيكي.

تخرج من كلية أركان حرب المصرية في عام 1973.

والتحق بعدها بكلية كمبرلي الملكية لأركان الحرب بإنجلترا في عام 1974، وهي أكبر الكليات العسكرية في المملكة البريطانية،وواحدة من أكبر الكليات العسكرية على مستوى العالم.

فور تخرجه منها، عُين مدرساً بها، ليكون بذلك أول ضابط يُعين في هذا المنصب، من خارج دول حلف الناتو، والكومنولث البريطاني.

تولى، اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج، ، العديد من المناصب الرئيسية في القوات المسلحة المصرية، منها هيئة العمليات، وهيئة البحوث العسكرية. وعمل مدرساً في معهد المشاة، ومدرساً بكلية القادة والأركان. كما عين مديراً لمكتب مدير عام المخابرات الحربية ورئاسة إدارة الشئون المعنوية.

تتلمذ على يده العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية البارزة، إبان عمله مدرساً في معهد المشاة، ومدرساً في كلية القادة والأركان المصرية.

لم تقتصر حياته العملية، على المناصب العسكرية فحسب، وإنما عمل، سمير فرج، بعد انتهاء خدمته العسكرية، في العديد من المناصب المدنية الحيوية، ومنها وكيل أول وزارة السياحة، ورئيس دار الأوبرا المصرية، ومحافظ الأقصر. ويشغل حالياً منصب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة NatEnergy.

وله العديد من الكتب والمؤلفات العسكرية، خاصة فيما يخص أساليب القتال في العقيدة الغربية العسكرية. كما أن له عمود أسبوعي، يوم الخميس، في جريدة الأهرام المصرية ومقال أسبوعى يوم السبت فى جريدة المصرى اليوم.