
في أجواء روحانية تتزامن مع الإحتفالات بمولد الرسول الكريم ﷺ، أخذتنا الدكتورة نعيمة داوود، منسق عام الرحلات بـ”حملة الدفاع عن الحضارة المصرية”، في رحلة تاريخية ومعرفية إلى واحد من أعظم الأضرحة الإسلامية في القاهرة، هو ضريح الإمام الشافعي بالقرافة الصغرى، الذي يُعد شاهدًا على تواصل العمارة الإسلامية وتجلياتها الروحية والفكرية.
مفهوم الضريح وأصول العمارة الإسلامية
كلمة “الضريح” في اللغة العربية مشتقة من الفعل ضرح أي شق أو لحد وسط القبر. وتوسّع الاستخدام ليشمل البناء المشيّد على القبر، وأحيانًا التوابيت الخشبية أو التراكيب العلوية.
ومنذ القرون الأولى للإسلام، اعتنى المسلمون بإقامة الأضرحة والقباب فوق قبور أهل الفضل والعلم والصلاح. وفي مصر الإسلامية تحديدًا، ظهرت هذه الظاهرة منذ القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، وكان مشهد آل طباطبا بعين الصيرة (943م/334هـ) من أقدم الأمثلة.
وتطور هذا التقليد بشكل لافت في العصر الفاطمي، خصوصًا فوق قبور آل البيت، لتظهر “المشاهد” المميزة، ومنها ما ورثه العصر الأيوبي مثل ضريح الإمام الشافعي.

قصة الضريح وعلاقة الأيوبيين به
توفي الإمام محمد بن إدريس الشافعي عام 204هـ/819م، ودُفن بتربة أولاد ابن الحكم بالقرافة. ومع تولي صلاح الدين الأيوبي السلطنة، أولى الضريح عناية خاصة لانتمائه إلى المذهب الشافعي، بل شيد مدرسة بجواره لتدريس المذهب.
أما السلطان الكامل فقد أقام القبة الضخمة فوق الضريح، وحرص على توصيل المياه إليه من بركة الحبش عبر قناطر، بعد دفن والدته بجوار الإمام الشافعي. وتشير بعض المصادر إلى أن أم السلطان الكامل كانت صاحبة الأمر ببناء القبة، ودوّن اسم ابنها عليها تخليدًا لذكراه.
العمارة والزخارف: تحفة أيوبية خالدة
توضح الدكتورة نعيمة داوود أن القبة الضريحية تقوم على قاعدة مربعة طول ضلعها 20 مترًا، بارتفاع طابق سفلي حجري يبلغ 10.62 متر، تعلوه زخارف هندسية ونباتية ذات تأثير أندلسي مغربي. يعلو ذلك طابق مثمن، ثم قبة خشبية مكسوة بالرصاص، فتح برقبتها 16 نافذة.
وتزين القبة من أعلاها هلال نحاسي ضخم طوله متران، يتدلى من سلسلة حديدية. وقد اختلفت الروايات في تفسير الغرض منه: بين رمز لسعة علم الإمام الشافعي أو وعاء لتخزين الحبوب لإطعام الطيور، غير أن الرأي الأقرب أنه رمز للعلم الغزير الذي ميز الإمام.
القاعة الداخلية
يُدخل باب شمالي شرقي إلى القاعة الرئيسية (15×15 مترًا)، وهي غنية بالنوافذ المزخرفة، والزخارف الخشبية، والأشرطة الكتابية بالخط الأيوبي. ويضم جدار القبلة ثلاثة محاريب رئيسية من الرخام، أضيف إليها محراب رابع أيام السلطان قايتباي لتصحيح اتجاه القبلة.
تغطي الجدران وزرات رخامية ملونة يعلوها إطارات وزخارف نباتية وهندسية، فيما تضم القاعة أربع تراكيب خشبية، أهمها تركيبة الإمام الشافعي المصنوعة من خشب الساج الهندي، المزينة بزخارف هندسية ونقوش بالخطين الكوفي والنسخي.
الترميم عبر العصور
لم يتوقف الاهتمام بالضريح عبر العصور، فقد جدده السلطان الأشرف قايتباي، ثم السلطان قانصوه الغوري. وفي القرن الثامن عشر، قام علي بك الكبير بإصلاح القبة وتجديد الرصاص والزخارف الداخلية، فيما قام عبدالرحمن كتخدا (1776م/1190هـ) بإصلاح أرضية المدخل وكسوتها بالزيلج المغربي المشابه لقصر الحمراء في الأندلس.



