أممُ المستقبل مُستعدة بأفرادها لتقبل كل جديدٍ، ومُعايشة الحياة المُتغيرة، لا كما تُصورها صفحات الماضي، ويرسمها التخيل البائس، فقد وُهبت لنا الحياة، ولم يكن لنا اختيار فيها سوى العيش على قوانينها التى لن نستطيع لها تبديلًا، ولا أستوعب كيف حتى الآن لم يدرك البعض أن الأمم المُستعدة للنهوض تضع الماضى فى المتاحف، تتأمله، وتدرسه، ولا يرسم لهم خطوات الحاضر، ولا يبين لهم معارج المستقبل، ولم يحفظوا أبدًا أنهم أعلم بأمور دنياهم المُتجددة.
فالحياةُ لم تصمد على سيرتها الأولى كما وجد عليها الإنسان الأول ورآها، فغير الإنسان فيها وعدل فى ملامحها الأولى، وتزينت بإبداعه، لأنها خُلقت تكره الثبات، وتعشق التحول، ولم تتخلف يومًا عن التبدل، والتغير كما أراد لها خالقها سبحانه وتعالى، ونفخ فيها من روحه، وبات ناموسها التحول دومًا، وتحولها أشبه بالثبات فى إصراره على التبدل، والتلون والتغير، ومن لا يؤمن بحكمة الحياة ويُحاكيها فى تحولاتها المُدهشة، يبقى أبد الدهر عائشًا بين الحفر، فمنذ أن كانت صحراء جرداء لا نبت فيها ولا زرع يخاف إنسانها الليل، ويعشق النهار لا يستر جسده العارى شيئًا لم يهنأ حتى بدلها كما أراد لها الخالق وأراده خليفة يتحضر ويتطور ويبدع ويسيطر ويتملك.
ولكن عقول البعض ترفض محاكاة الحياة فى تبدلها وتغيرها، وفضلوا العيش بين الحفر رافضين حقائقها المتبدلة دومًا، فتركتهم الحياة فى غياهب الجُبِّ مُتخلفين محصورين يقتلون بعضهم بعضًا، ويُكفرون بعضهم بعضًا، يظنون أن الخير كله فى القديم لقدمه، وحديثه بدعة وزيف وبهتان، يحاربون طواحين الهوا متحدين سنة الحياة فى التبدل والتغير.
تغيير قناعاتنا أقرب طريق للمستقبل، ومسيرة ناموس الحياة أسلم طريق للمضى نحو المستقبل بلا تعثر، ودراسة ماضى الأمم لمعرفة كيف تقدمت يومًا، وليس للنقل، فكل عصر له آلياته، ووسائله، وما نجح وحقق تقدمًا بالأمس ليس بالضرورة صالحًا لليوم، والحقائق بنت وقتها، وحتمًا تتغير وتتبدل بتطور الرؤى، فالحقائق وقتية لزمانها تُدرس ولا تحفظ وتُكرر، ولنحسن الظن بالحياة صاحبة كل جديد، وما نفهمه منها اليوم ربما نرى غيره بعد غد، فلا شيء ثابتا، وكل شيء قابل للتبدل والتحول، إنها سنة الحياة، ولو أجهدنا أنفسنا قليلًا لرأينا وأدركنا كيف تتغير الدنيا وتتبدل أفكارها وتتحقق الظنون وتتحوَّل الأمانى المستحيلة إلى حقائق شاخصةٍ بين أيدينا، ولو تدبرنا مليًّا نجد الجديد يبلى والصغير يكبر والكبير إلى زوال، فلا شيء ثابتا ولا شيء نهائيا، فقانون الحياة أنها فى تبدل وتغير مُستمرين.
فالبعض يعادى الحياة، ولا ينسجم بتغيرها وتبدلها، وصنع أكوام الجهل وعشوائيات التفكير، وبات يرفل فيها بعض من شبابنا ومتعلمينا، تعلموا تقديس القديم لقدمه والاستهانة بالحديث لجِدَّته، تعلموا الحفظ والتلقين، وأقاموا الاحتفالات للحفظ، لا للابتكار والتجديد، ونلوم جماعاتٍ على ما هى عليه، ونتعجب لمعاداتها كل طوائف المجتمع لفرض ما حفظته دون تدبر، متى نفهم أن معاداة العقل سر التخلف؟!



