مصر هى عاصمة دولة التلاوة الأقدم والأشهر، ومدرسة القرآن المصرية كانت -وما زالت- هى الأولى والأهم والأكثر نفوذًا وتأثيرًا، بكل ما تتفرد به من بصمة خاصة فى فن الأداء، وما تتميز به بالحفظ التام والتمكن وحلاوة الصوت الذى يصل بالمعانى إلى شغاف القلوب، وقد أتى حين من الدهر على مصر كان بها قارئات للقرآن الكريم، يرتلن ويجودن كأفضل ما يكون، ومعتمدات بالإذاعة، وكان لهن صيت كبير وعديد من المستمعين، ومن أشهرهن الشيخة «كريمة العدلية»، والشيخة» نبويه النحاس».
والشيخة «كريمة العدلية» تخطت شهرتها حدود مصر، حتى إن الشيخ على محمود قارئ القرآن الشهير عُرف عنه أنه كان مغرما ومحبا للاستماع إلى تلاوتها للقرآن الكريم، علاوة على أدائها للتواشيح الدينية. ورحمة الله عليه تعود أن يتبعها أينما تذهب لإحياء ليالى القرآن عند النساء للاستماع إليها، ومما يذكر بالمثل عن الشيخة كريمة العدلية أنها تعودت على الذهاب الى مسجد الحسين فجرا حتى تستمع للشيخ على محمود وهو يرفع الأذان بالمسجد. وفى يوم ما جمع القرآن بين قلبيهما وتزوجا، وأصبحا يقرآن سويًا فى الإذاعة المصرية.
وبدأت قصة القرآن مع الشيخة كريمة التى ولدت بحى الجمالية 1914 وتوفى والدها وهى فى سن الخامسة، وقد عانت من ضعف شديد فى البصر، وتولى أخوها تحفيظها للقرآن وأتمته فى سن الحادية عشرة، وكف بصرها وهى فى سن 16 عاما.
كانت ترتل آيات القرآن بصوتها حتى الحرب العالمية الثانية، واعتادت إقامة حفل ضخم للإنشاد فى الخميس الأول من كل شهر فى أحد بيوت أثرياء الأقاليم، وذاع صيتها لتحيى ليالى قرآنية وعزاءات السيدات، فأحيت عزاء الراحلة اسمهان وكذلك عزاء عالم الفيزياء على مصطفى مشرفة، وكانت على علاقة طيبة بكل زوجات رجال الثورة، وكانت تحيى أى عزاء تابع لهن، وقد بلغت شهرتها لدرجة أن قدمتها الإذاعة مرتين فى يوم واحد، واستمرت فى القراءة والتلاوة فى الإذاعة حتى نهاية الخمسينيات قبل أن تصدر فتوى من أحد المشايخ تحرم قراءة النساء للقرآن..!
أما القارئة الثانية فهى الشيخة «نبوية النحاس» التى تعد آخر مصرية ترتل القرآن الكريم فى الاحتفالات العامة، وفى المناسبات الدينية، وفى المآتم، والأفراح، والاستماع إليها كان مقصورًا على السيدات، والشيخة نبوية لم تقتصر قراءتها على المناسبات الدينية والمآتم بل امتدت لمسجد الإمام الحسين بالقاهرة، حيث يوجد مكان مخصص للسيدات به يدخلن إليه من باب مخصوص، وتميزت بصوتها القوى الرنان، وظهرت الشيخة نبوية فى فترة زمنية عاشت فيها اثنتان من كبار القارئات تنافسن سويًا فى قراءة القرآن، وقد عاصرت نفس الفترة التى اشتهر فيها الشيخة كريمة العدلية والشيخة منيرة عبده.
وتحدث الكاتب الراحل الكبير محمود السعدنى عن الشيخة «نبوية النحاس» فى كتابه «ألحان السماء» حيث قال عنها فى فصل بعنوان «من الشيخة أم محمد إلى الشيخة كريمة العدلية»: «أن السيدة نبوية كانت واحدة من 3 سيدات اشتهرن بتلاوة القرآن الكريم ومعها السيدة كريمة العدلية والسيدة منيرة عبده»، وختم القول عنها قائلا: «بموت السيدة نبوية النحاس، انطوت صفحة رائعة من كتاب فن التلاوة والإنشاد الدينى فى العصر الحديث، وتوفيت رحمة الله عليها عام 1973م.



