
“انقلوا صوتنا خارج جدران مصحة سايكو!”. بهذه الصرخة المسرحية الخاتمة، تختزل مسرحية «سايكو» رؤيتها ورسالتها الإنسانية، لتصبح شهادة درامية على الواقع المجتمعي الضاغط الذي يوشك أن يفقد توازنه، ويهوي بسكانه إلى هاوية الجنون.
العرض الذي يُقدَّم على خشبة مسرح نجيب محفوظ بمؤسسة الأهرام، من تأليف الكاتب والشاعر حمدي نوار، وإخراج عصام سعد، يفتح نافذة على سؤال وجودي مزمن: من هو المجنون الحقيقي؟ هل هو من يُحبس داخل جدران المصحة، أم من يحكمه بروتوكول بارد بلا روح؟
بيرانديللو في عباءة شعبية مصرية
استلهم الكاتب بنيته الدرامية من ثنائيات مسرح لويجي بيرانديللو: “ست شخصيات تبحث عن مؤلف” و*”هنري الرابع”*، حيث يتقاطع الواقع بالوهم، والعقل بالجنون. لكن نوار لم يركن إلى الاقتباس أو التنظير، بل نسج رؤيته في نسيج مسرح شعبي مصري خالص، لغته حوارية حية، ثرية بالمشاعر، زاخرة بالشاعرية الثورية والنبض الإنساني.
لغة النص جاءت كوعاء لميلودراما عالية التوتر، تصرخ في وجه المجتمع، وتحذر من التفسخ القيمي، وتُحملق في المآسي من خلف قناع السخرية السوداء.
حبكة داخل مصحة.. ونماذج من واقع محطم
يدور الحدث داخل مصحة نفسية تدعى “سايكو”، حيث تتكثف الشخصيات باعتبارها نماذج مصغّرة للمجتمع المصري. تصحبنا الحبكة في صراع بين مدرستين للعلاج: الأولى يمثلها الدكتور سايكو (الذي يُجسّده الفنان ماجد علي في أداء قوي ومتماسك)، وهو تجسيد صارم للنظام والبروتوكول، بينما تقف أمامه الدكتورة الجديدة برؤية علاجية تقدمية تعتمد على الفن والسيكودراما وتحرير الطاقات المكبوتة.
تتوالى أمامنا أنماط بشرية تعاني – بطرائق شتى – من عنف المجتمع:
رجل بائس تزوج بحثًا عن الطعام الجيد، ليقع في فخ زوجة مهووسة بـ”المربى” والترف الفارغ، في سخرية من صعوبة المعيشة.
صحفية شريفة كانت قاب قوسين من فضح فساد، فتم إدخالها المصحة عقابًا على التزامها المهني.
عالم ذرة عاد من الغرب بدكتوراه في الفيزياء، فلم يجد سوى التوكتوك وسيلة للعيش.
فنانة متعددة المواهب اضطرت لملاحقة “الترند” عبر تطبيقات مثل “تيك توك”، بعدما تجاهلها الإعلام والفن الرسمي.
كل شخصية تكشف وجها آخر لانكسار الإنسان في وطن لا يمنح أبناءه فرصة للشفاء، بل يعمّق جراحهم.

ذروة الحدث.. وانكشاف القناع
في قمة التصاعد الدرامي، نكتشف أن الطبيب ذاته – د. سايكو – يعاني من اضطراب نفسي دفين، ناتج عن فشله في إنقاذ زوجته من الاكتئاب رغم كونه “طبيبًا نفسيًا”. هنا تنقلب الآية: السجان مريض، والمرضى يملكون شغف الحياة، في حين تحكمهم قيود الصعق بالكهرباء!
ينتهي العرض بمشهد جماعي غاية في التكثيف: يصرخ نزلاء المصحة باتجاه الجمهور، مناشدين إيصال صوتهم إلى الخارج، في لحظة تتماهى فيها جدران المسرح مع أسوار المصحة/الوطن.
الإخراج والرؤية البصرية
اعتمد المخرج عصام سعد على لغة الثنائيات البصرية: البرتقالي الكئيب في مقابل الأزرق الحالم، الخطوط الدائرية الصاخبة أمام الخطوط المستقيمة الهادئة. كل عنصر بصري خدم الفكرة المركزية: المصحة ليست مكانًا للعلاج، بل انعكاس مأساوي لمجتمع كامل فقد توازنه.
التوظيف الذكي للديكور – من تصميم د. أحمد شوقي – أعطى للمصحة طابع السجن، مدخلها لافتة مرتفعة تُشي بعنف السلطة، وتُلمّح إلى أن العلاج ليس إلا قمعًا مقنّعًا.
أما الاستعراضات (من تصميم ماهر مفتاح) والموسيقى (من تلحين باسم عبد العزيز) فقد جاءت كمساحات تهكمية لالتقاط الأنفاس، لا سيما في مشهد الفنانة الشابة التي تسخر من منطق “اللايك والشير”، وتعرض نفسها كمنتج رقمي رخيص في سوق لا يعترف بالفن الحقيقي.
في الختام
مسرحية سايكو تجربة مسرحية ذات طابع احتجاجي راقٍ، تُقدِّم نقدًا اجتماعيًا حادًا، لكنها تفعل ذلك بلغة مسرحية واعية، وبأداء تمثيلي صادق، وإخراج بصري محسوب.
إنه عرض يضع المتلقي أمام مرآة، ويتركه مع سؤال وجودي مزعج: هل نحن فعلًا خارج المصحة؟ أم أن مصحة “سايكو” قد خرجت إلينا؟



