
لم يكن غريبًا أن أتلقى ذات يوم تساؤلًا من خبير سياحي يتساءل فيه: لماذا تتصدر المغرب المشهد السياحي في شمال أفريقيا، رغم أن مصر تمتلك كنوزًا وآثارًا لا تقارن؟
الإجابة المؤلمة باختصار: لأن مصر تتفوق على المغرب في شيء واحد فقط… البيروقراطية! تلك البيروقراطية العقيمة التي حولت كنوز الحضارة المصرية إلى مادة مهملة، لا نعرف كيف نروج لها، ولا كيف نستثمرها، في حين استطاعت المغرب -بمرونة وحسن إدارة- أن تخلق من رمال صحرائها بيئة جذب لعشرات من كبريات شركات الإنتاج السينمائي في العالم.
المغرب تربح بالأوهام… ومصر تخسر رغم امتلاكها للأصل
كم من الأفلام والمسلسلات الأجنبية، التي تدور أحداثها حول الحضارة المصرية القديمة، تم تصويرها في المغرب؟ رغم أن القصة تدور في مصر، والمعابد مصرية، والرموز فرعونية خالصة! لكن كاميرات التصوير تدور في المغرب، بين “نماذج مقلدة” لمعابد الكرنك والأقصر وأبو سمبل!
السبب؟ ببساطة لأن المغرب تقدم تسهيلات، ومصر تقدم قيودًا، وتعقيدات، ورسومًا مبالغًا فيها، وطلبات إدارية لا تنتهي.
حين طلبت هوليوود التصوير في مصر… قالوا: “يدفعوا بالدولار!”
حين كنت أدير مكتب تنشيط السياحة في لوس أنجلوس، طلبت مني إحدى شركات الإنتاج الهوليوودية الشهيرة تصريحًا للتصوير في مصر لفيلم تدور أحداثه حول اكتشاف مقبرة فرعونية. وبكل حماس، تواصلت مع المسؤولين بهيئة تنشيط السياحة بالقاهرة. وكان الرد الصادم:
“إذا كان عندهم ملايين يصرفوها على الفيلم، يبقى يدفعوا عشرة آلاف دولار في الساعة تصوير… مش فارقة معاهم!”
هكذا، بمنتهى اللامبالاة، تُدار ثروة مصر من الدعاية المجانية، وكأننا لا نعلم أن هذا الفيلم سيعرض في عشرات الدول ويشاهده الملايين، ويمنح مصر دعاية لا تُقدر بثمن.
بصيص من الأمل… ثم عودة للتيه
لحسن الحظ، تدخل آنذاك الدكتور ممدوح البلتاجي، وزير السياحة الراحل، وأصدر توجيهًا عاجلًا للمجلس الأعلى للآثار لمنح الشركة التصاريح، بل واستجاب لطلبي باستضافة الوفد الأمريكي. كما تميز الأستاذ عادل عبد العزيز، رئيس هيئة التنشيط آنذاك، بحسن التقدير والتفهم.

أما الدكتور زاهي حواس، فقد كان نموذجًا للتعاون الوطني، حيث استقبل بنفسه الوفد الأمريكي عند الأهرامات، وسهّل كل التصاريح، حتى أن المنتجين قالوا لي: “لم نعامل بمثل هذا الكرم في أي مكان صورنا فيه من قبل”. والنتيجة؟ دعاية قدرت قيمتها بالملايين، تفوق أضعاف ما قد تُنفقه وزارة السياحة على حملات تسويقية فاشلة.
من “على رأسي من فوق” إلى “اطردوهم برسوم التصوير”
أتذكر جيدًا كيف استجاب حواس دائمًا لدعواتي لاستقبال الصحفيين والمنتجين من إسبانيا وأمريكا اللاتينية. لا مقابل، لا تعقيدات. فقط إدراك وطني لحجم العائد الذي يمكن أن تحققه مصر من ظهورها على شاشات العالم.
بل حكى لي مدير قناة مدريد بعد عودته: “لقد كنا سنخصص 15 دقيقة فقط عن مصر، لكننا قررنا تخصيص ساعة كاملة بسبب اللقاء المميز مع حواس.” حتى المنتج الإسباني لاحظ إيماءة ترحيب منه، فوصفها بسحر خاص لم يجده في أي دولة أخرى.
لكن للأسف، هذا النهج الفردي لم يصمد طويلًا أمام آلة البيروقراطية القاتلة. حواس ذهب، والمرونة اختفت، وعادت مصر لسياستها المعتادة: “ادفع وامشي.. أو روح صوّر في المغرب!”
رسالة مفتوحة للمسؤولين عن السياحة والثقافة في مصر
كفى دفنًا للرؤوس في الرمال. كفى سياسات طاردة لكل من يريد أن يخدم مصر بدولاراته وعدساته وكاميراته. العالم لا ينتظر أحدًا، والمغرب لم تنتظر، بل سبقتنا وكسرت القيود، وجنت المكاسب.
إن كنتم لا تملكون رؤية، فاتركوا المجال لمن يستطيع. فالحضارة المصرية لا تستحق هذه المعاملة البيروقراطية المهينة. إنها تستحق أن تكون على شاشات العالم كل يوم، لا في نماذج مقلدة في دول أخرى، بل من قلب مصر، ومن ترابها، ومن تاريخها الحقيقي.
لكن ذلك لن يحدث إلا إذا توقفنا عن معاملة الإنتاج السينمائي الأجنبي كوسيلة لجني الأموال السريعة، وبدأنا في فهمه كوسيلة دعائية استراتيجية تبني صورة مصر في أذهان الشعوب.
مصر تملك الأصل… فلماذا نترك غيرنا يربح من التقليد؟