
في هدوء الصحراء الغربية بالأقصر، وتحت صمت الصخور المحفورة بأسماء الفراعنة، ترقد قرية دير المدينة التي شهدت أول صرخة احتجاج عمالي موثقة في التاريخ.. “نحن جائعون نموت من الجوع!”
هكذا بدأت الدكتورة رنا التونسي حديثها عن أسرار حكايات قرية “ست ماعت”، أو ما تعرف اليوم بدير المدينة، حيث عاش عمال مقابر وادي الملوك حياة مستقرة نسبيًا لنحو أربعة قرون، قبل أن تعصف بهم رياح الانهيار السياسي والاقتصادي في أواخر عهد الأسرة العشرين، خاصة في أواخر حكم الملك رمسيس الثالث.
إضراب موثق على ورق البردي
بحسب التونسي، فقد دوّنت تفاصيل أول إضراب عمالي في التاريخ على برديتي هاريس وتورين، واللتين وثقتا الاحتجاجات التي اندلعت في السنة التاسعة والعشرين من حكم رمسيس الثالث، بعدما عجزت الدولة عن دفع المخصصات الشهرية لعمال الجبانة.
رغم أن تأخر الرواتب لم يكن شائعًا في بدايات حكم رمسيس الثالث، إلا أن تراكم الأزمات – سواء بسبب الفساد، أو النزاعات، أو الأوبئة – أدى إلى انقطاع الإمدادات الغذائية، ما دفع العمال إلى اتخاذ موقف جماعي: الإضراب عن العمل، و”عدم الخروج من منازلهم”، وفق ما ورد في السجلات.
احتجاجات تصاعدية.. وابتكار لآليات الضغط
استمرت معاناة العمال لعدة أشهر، وبدأوا في تصعيد احتجاجاتهم، فخرجوا من المدينة مصطحبين زوجاتهم وأولادهم، ورفضوا العودة إلا بعد صرف رواتبهم. تنقلوا بين معابد الأقصر، بداية بمعبد تحتمس الثالث، ثم وصلوا إلى بوابة الرامسيوم، معبد رمسيس الثاني، حيث اقتحموا المعبد وهددوا المسؤولين.

اللافت – كما تقول التونسي – أن العمال كانوا واعين تمامًا بأهمية حركتهم الاحتجاجية، وأدركوا أن الإضراب وسيلة ناجحة لانتزاع الحقوق، فبدأوا في استخدامه بشكل متكرر مع كل تأخير في المخصصات.
من المطالبة بالخبز.. إلى اتهام بالفساد
في تطور لافت، لم يعد العمال يطالبون فقط بالطعام، بل بدأوا في اتهام المسؤولين بالسرقة والفساد، وصرحوا بذلك قائلين: “لم نتخط الأسوار بسبب الجوع فقط، بل لأن جرائم تُرتكب في هذا المكان التابع للملك”.
هذا التحول يشير إلى بداية تحول الاحتجاجات من مطالب معيشية إلى حركة سياسية واجتماعية ضد الفساد، ما اعتبره بعض المؤرخين نواة ثورة صامتة في قلب مصر القديمة.
هروب الوزير.. وتهديدات بالاعتقال
مع تصاعد الغضب، رفض الوزير “تا” مواجهة العمال بنفسه، وأرسل خطابًا عبر أحد الضباط يعدهم بصرف المخصصات، وهو وعد لم يتحقق بالكامل. بل إن أحد العمال، “موسى بن ناخت”، أُهين وضُرب بسبب قسمه “بآمون والملك” على عدم العودة للعمل.
لاحقًا، وعندما حاول العمال التوجه إلى الميناء للشكوى، تم تهديدهم بالسجن من قبل الكاتب “آمون نخت”، لكنهم لم يتراجعوا، واستمروا في احتجاجاتهم حتى حصلوا على بعض احتياجاتهم.
دعم شعبي.. وغضب كهنة آمون
في إحدى المرات، أقدم عمدة طيبة على دعم العمال الجائعين بخمسين كيسًا من الحبوب من مخازن المعبد، ما دفع كبير كهنة آمون لتقديم شكوى رسمية ضده، معتبرًا ما حدث “جريمة كبرى” لأنه أخذ من “قرابين المعبد”.
نهاية مفتوحة.. وبداية تاريخية
تختم الدكتورة رنا التونسي حديثها بأن البرديات لم توثق نهاية واضحة لتلك السلسلة من الإضرابات، لكن ما هو مؤكد أن عمال دير المدينة أسسوا لواحدة من أوائل حركات الوعي الاجتماعي في التاريخ الإنساني، وصار الإضراب من بعدهم أداة مشروعة للحصول على الحقوق.
“صوت هؤلاء العمال، المحفور على ورق البردي، لا يزال يتردد في ضمير البشرية، يذكرنا بأن الكرامة حق لا يُؤجل، وأن الجوع قد يصنع التاريخ.