
ما زال الجدل دائرًا حول مشروع تطوير مدخل منطقة أهرامات الجيزة من جهة طريق الفيوم، مع بدء تشغيل المنظومة الجديدة التي تتولاها شركة أوراسكوم للاستثمار، في وقت تتصاعد فيه أصوات الخبراء والمختصين، بين مؤيد للتطوير بشرط احترام قدسية الموقع، ورافض لتغليب الطابع الاستثماري على التراثي. فهل نحمي التاريخ أم نُجيره للسياحة؟ وكيف يرى علماء الآثار واليونسكو هذا التحول؟
بدايات الفكرة: من فاروق حسني إلى أوراسكوم
الدكتور منصور بريك، عالم المصريات البارز، والذي عمل أكثر من 20 عامًا في منطقة الأهرامات، أوضح أن فكرة إنشاء مدخل جديد من طريق الفيوم ليست حديثة العهد، بل تعود إلى أواخر التسعينيات، حين شرع وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني في إعداد بنية تحتية لتلك الفكرة، من خلال تهيئة طرق ومسارات للخيول ومنطقة للتريض، بهدف حماية المنطقة الأثرية من التعديات وحركة الدواب العشوائية.
وقد شهدت المنطقة، في أوائل الألفية، إقامة سور كامل حول الأهرامات، وإنشاء مدخل جديد من جهة مينا هاوس، بهدف تأمين الموقع وتنظيم حركة الدخول والخروج، خاصة للخيالة والجمالة. إلا أن التجربة لم تنجح بسبب عدم التزام الكثير من أصحاب الدواب، بل وصل الأمر إلى تهديد أمن السياح باستخدام الصوت العالي والسباب لفرض السيطرة.
الدواب تدهس التاريخ
يُحذّر الدكتور بريك من الخطر الذي شكّلته الخيول والجمال على المعالم الأثرية، مؤكدًا أن منطقة الأهرامات لا تضم فقط الأهرامات الثلاثة، بل أكثر من 10 آلاف مقبرة موزعة في محيطها، ومنها جبانة العمال، ومقابر خعفرع ومنكاورع، ومقابر من الطوب اللبن التي دُمرت بفعل حركة الدواب فوقها.
ويُشير إلى أن محاولات منعهم من دخول تلك الجبانات باءت بالفشل، بل إن بعضهم عمد إلى تحطيم الأسوار التي أقيمت لحماية الآثار، ضاربين بالقوانين عرض الحائط. ويستشهد بحادثة شهيرة نشرتها جريدة الأخبار في التسعينيات، حين باع أحد الجمالة قطعًا من أحجار الهرم الأكبر لسياح سويسريين مقابل عشرين دولارًا للقطعة، وهو ما أسفر عن اعتقاله، لكنه عاد للعمل لاحقًا!

ما بعد الثورة: سيطرة عشوائية واستغلال تجاري
ازدادت الفوضى في أعقاب ثورة يناير 2011، حيث سيطر الباعة الجائلون والخيالة على المنطقة، ومنعوا السياح من دخول بعض المعالم مثل معبد وادي خعفرع، بل وأجبروا إدارة الآثار على فتح مخرج جديد لتفادي الصدام معهم.
ويُؤكد بريك أن منطقة الهرم تحوّلت إلى “سوق شعبي”، تباع فيه منتجات صينية بأسعار زهيدة، وتُمارس فيه كل أشكال العشوائية التي تسيء لصورة مصر السياحية، في ظل غياب رقابة حقيقية أو خطط جادة للإنقاذ.
التطوير في قبضة الاستثمار: مزايا ومخاطر
يُبدي بريك ترحيبه من حيث المبدأ بمشروع أوراسكوم، باعتباره تجربة جديدة لإدارة المواقع الأثرية، تسعى لتقديم خدمات حضارية مثل دورات المياه، وتوفير وسائل تنقل، وتنظيم الدخول والخروج، لكنه في الوقت نفسه ينتقد توسع الشركة في استغلال المواقع وإقامة الحفلات، وفرض رسوم باهظة على مواقف السيارات والخدمات الأخرى.
ويُشير إلى قيام الشركة بدهان مبنى الإدارة الهندسية القديم بلون أبيض غير مناسب لطبيعة الموقع، فضلًا عن إقامة مطاعم دائمة في منطقة البانوراما، رغم أن المخطط الأصلي نص على استخدامها لمواد خفيفة قابلة للإزالة.
ويُحذّر من إطلاق الألعاب النارية في محيط تمثال أبو الهول، لما قد تسببه من اهتزازات تهدد سلامته، خصوصًا في ظل ارتفاع منسوب المياه الجوفية أسفله، وهو ما استدعى تنفيذ مشروع لتخفيضها سابقًا.
أوتوبيسات كهربائية… تجربة فاشلة؟
من بين الانتقادات التي يوجّهها بريك أيضًا تجربة استخدام الأتوبيسات الكهربائية لنقل الزوار، معتبرًا إياها غير عملية، خاصة مع وفود عشرات المجموعات السياحية يوميًا، لكل منها مرشدها الخاص، ولغتها المختلفة، فضلًا عن حرمان السائح من وسائل الراحة داخل حافلته، مثل دورات المياه والشرح الصوتي.
ويؤكد أن هذه المنظومة غير ملائمة أيضًا للزائرين المصريين في الأعياد والعطلات الرسمية، أو رحلات المدارس التي تتدفق بالألوف، ما قد يخلق ازدحامًا شديدًا وفوضى إضافية.
التراث في خطر: أين اليونسكو؟
من جانبه، يحذّر الدكتور محمود الشنديدي، استشاري إدارة التراث الثقافي والعالمي، من خطورة ما يحدث على مستوى عالمي، موضحًا أن اتفاقية اليونسكو للتراث العالمي (1972) تنص على قواعد صارمة لإدارة مواقع التراث، تشمل ما يُعرف بـ”منطقة الحماية” أو Buffer Zone، التي يُفترض أن تُدار فقط بواسطة الجهات الرسمية المختصة، لا شركات استثمارية.
ويُشير إلى أن اليونسكو تمتلك أدوات للمراقبة والتقويم، لكن ضعف أدائها البيروقراطي جعلها عاجزة عن فرض المعايير، رغم أن مصر تزخر بخبراء أكفاء تلقّوا تدريبات دولية، إلا أن الجهات الرسمية لم تستفد من خبراتهم.
الحل وفق رؤية الخبراء
يرى الدكتور بريك أن الحل يكمن في تنظيم استخدام الحافلات: بأن تُسمح للمجموعات السياحية باستخدام حافلاتهم الخاصة داخل المنطقة، على أن يتم استخدام حافلات أوراسكوم فقط في المسارات الداخلية، مع تخصيص منطقة دائمة لركوب الخيل والجمال في خلفية الأهرامات، بعيدًا عن المناطق الأثرية الحساسة.
كما يطالب بوضع خطة واضحة لتنسيق الزيارات المصرية، والتعامل بصرامة مع أي اعتداءات على الموقع، وإعادة النظر في ممارسات الشركة القائمة على الإدارة، بما يضمن احترام هيبة الموقع وأصالته.
ختامًا: بين التطوير والتدمير… أهرامات الجيزة تُنادي
منطقة الأهرامات ليست مجرد مقصد سياحي، بل رمز للهوية المصرية وكنز عالمي، وأي مساس بها يجب أن يُخضع لرقابة علمية دقيقة، وتوازن بين متطلبات التنمية واحترام التاريخ. فهل تسمع الدولة واليونسكو نداء الأهرامات؟ أم نتركها تُختطف باسم “التطوير”؟