يسألونك عن دولة القانون، قل: هي التي تطبق القانون الذي يتضمن القواعد العامة المجردة التي تصدرها السلطة التشريعية بغرض تنظيم علاقات المؤسسات والأفراد داخل الدولة.
والدولة القانونية هي التي تخضع جميع هيئاتها وسلطاتها للقانون؛ أي إنه ما يحكم نشاطها الإداري والتشريعي والقضائي، مع اعترافها الكامل بحقوق الأفراد وحرياتهم، وأن يكون هدفها الرئيس هو إنشاء أو تحقيق القانون وحفظ النظام والاستقرار المجتعي وإقامة العدل.
والقانون يجب أن يكون متوافقًا ومتسقًا مع القواعد الدستورية والمنطق، وأن يعمل على إقامة التوازن الاجتماعي بين فئات المجتمع، والمساوة بين الأفراد وخضوعهم للمشروعية الدستورية التي خولت للسلطات القيام بهذا العمل.
ويصاغ القانون وفقًا أو طبقًا لمواد الدستور؛ فلا توجد مشروعية تخول للمشرع مخالفة مواد الدستور؛ كونه القانون الأسمى للدولة الذي يحدد نظام الحكم فيها، واختصاصات السلطات، وينظم السلطات ويحدد اختصاص كل سلطة والعلاقة بينها، وتلتزم به كل القوانين باعتباره ركنًا أساسيًا من أركان الدولة القانونية، والمرجع الأصلي الذي على هداه يمكن الحكم بتوافر أو عدم توافر سائر العناصر الأخرى للدولة القانونية.
ويقيم الدستور السلطات في الدولة، ويؤسس الوجود القانوني لهذه السلطات؛ ومن ثم يمتنع كل استخدام للسلطة العامة لا تراعي فيه الشروط التي حددها الدستور لاستعمالها؛ إذ يُعد من القلاع الحصينة لحقوق الأفراد وحرياتهم، ويتولى حقوق الحاكم والمحكومين، ويضع الضمانات الدستورية والقانونية، ويقيد السلطة التشريعية في إصدار أي قانون يخالف الدستور؛ إذ لا تمتلك سوى تنظيم استعمال الحقوق والحريات، دون مصادرتها سمو النص الدستوري؛ إذ يحقق وجود الدستور ضمانة عملية أو فعلية لضمان مبدأ سيادة القانون أو خضوع الدولة له.
والدستور هو القاعدة العليا للدولة، والقيد الحقيقي على جميع السلطات المنشأة في الدولة؛ باعتباره عمل السلطة التأسيسية، ويستند إليه أي قانون باعتبار الدستور مصدرًا هامًا للمشروعية؛ إذ تلتزم به هيئات الدولة كلها، كما أن أحكامه نافذة على الجميع، حكامًا كانوا أو محكومين.
وقد دارت معارك كثيرة بسبب انتهاك الدستور؛ منها على سبيل المثال المعركة التي دارت بين “توفيق دياب” وإسماعيل صدقي رئيس الوزراء في عام 1933 ؛ فقد كتب الصحفي دياب كثيرًا من المقالات التي دافع فيها عن الدستور وانتقد رئيس الوزراء ومجلس النواب؛ منها مقال شهير بعنوان” لا طاعة لحاكم في معصية الدستور”، نقولها ونقصدها معنًى ومبنًى.
وتُقاس الدولة في مدى تقدمها وتحضرها بمدى احترامها للقانون وإعلاء كلمته على الحكام والمحكومين؛ فعندما يحدث استقرار في النظام السياسي والقانوني لأي دولة فاعلم أن المجتمع يسير نحو التقدم؛ لأن الدولة التي لا عدالة فيها، يزول تماسكها بإهدار حقوق الآخرين؛ لأن غياب العدل يقوض النظامين الاجتماعي والدستوري اللذين يحافظان على تماسك البلاد.
ومن خلال قراءتي لمواد مشروع قانون الإجراءات الجنائية، وجدت أن إصداره بهذه الصيغه يعنى غياب العدالة، واختفاء سيادة القانون، وانتهاء المساواة، وفقد المواطن الثقة في الإجراءات والحماية والانصاف.
ولا يخلو مشروع القانون من عيوب فجة فاضحة، تُكتِّف المجتمع، وتحول دون محاسبة المسئول الذي يرتكب جرائم في حق المجتمع، ويهدد حرية الأفراد والاستقرار المجتمعي، ويُخوِّل لرجال الضبطية التنكيل بالمواطن، واقتحام المنازل، وانتهاك حرماتها.
اقد أعطى مشروع القانون صلاحيات لمأمور الضبط القضائي في تغييب واضح للرقابة القضائية، مع غياب الحق في الدفاع وعدم معرفة الاتهام أو الاستعانة بمحامٍ، علاوة على غياب الضمانات الأساسية للعدالة، وتعرض حرية المتهم وحقوقه للخطر.
وتضمن مشروع القانون ضمانات المحاكمة بسبب عدم تمكين الدفاع والمتهم من الحصول على نسخة من القضية؛ ما يُعد إخلالًا بالحقوق والمبادىء المتمثلة في مبدأ الحق في الدفاع، ومبدأ الاستقلال والموضوعية في التحقيقات، ومبدأ المساواة أمام القانون، والشفافية والإفصاح، والحق في العلم والاتهام.
وتتضمن بنود المشروع غياب الشفافية والعدالة؛ بسبب تفتيش المنازل في غياب أصحابها؛ ما يمثل انتهاكًا لحقوق الأفراد، وهو ما لا يقره دين، أو عرف، أو تقليد.
كذلك، يخلو مشروع القانون من مبدأ الحق في الحماية من الحبس التعسفي، والحق في الحرية والأمان الشخصي، بينما يؤكد الدستور في المادة 54 أن الحرية الشخصية حق طبيعي ومضمونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد، إلا بأمر قضائي مسبب يسلتزمه التحقيق.
ويزيد مشروع القانون من تعرض حرية الأفراد للخطر، والاحتجاز التعسفي، ويقلل من الضمانات ضد القرارات التعسفية، وإساءة استخدام السلطة، ويخل بمبدأ الإشراف القضائي الكامل في ظل عدم وجود آلية رقابية على قرارات النيابة العامة، كما يعتدي على سلطات محكمة القاضي في مد الحبس الاحتياطي في الجرائم، ويعتدي على مدى حرمة الحياة الخاصة للمواطنين وعلى حقوقهم الشخصية اللصيقة بهم، والتي لا تقبل انتقاصًا أو تقييدًا، إلا بموجب أمر من القاضي.
ويعتدي المشروع على مبدأ استقلالية القضاء، وحيادية التحقيق، والحق في الخصوصية، والفصل بين السلطات، فضلًا عن غياب المعاملة الإنسانية من خلال انتهاك حقوق المتهمين، وحرياتهم الأساسية وحقوقهم في المعاملة الإنسانية، وعدم إنزال عقوبة قبل المحاكمة العادلة، ومبدأ الحق في المعرفة والاتصال بالعالم الخارجي.
ويقضي المشروع على الحرية والأمن الشخصي واستقرار المجتمع ويتيح تغول الحكومة أو الجهات والأجهزة على المواطنين، وتقييد حرية المتهم رغم قرار النيابة بإخلاء سبيله؛ ما يمثل مخالفة للمعايير الدستورية والدولية التي تنص على ضمان حماية الحريات الشخصية والحقوق الأساسية للأفراد.
كذلك، يطيل المشروع أمد التقاضي والحبس الاحتياطي؛ ما يخل بمبدأ المحاكمة العادلة، والحق في الحرية، وغياب مبدأ الإجراء القانوني الواضح، والاعتداء على حقوق الملكية الخاصة.
ويتعارض مشروع القانون مع مبدأ المحاكمة العادلة، ومبدأ افتراض البراءة، والضمان في مراجعة قضائية فعالة، وإعطاء صلاحيات واسعة للنائب العام لاتخاذ إجراءات تقييدية على حركة المواطن دون ضوابط كافية ودون وجود حكم قضائي مسبق.
ولا شك في أنَّ انتهاك ضمانات المحاكمة والتحقيق العادل، ومواجهة إجراءات استثنائية من سلطات غير حيادية أو مستقلة، تُعرِّض الحقوق والحريات الشخصية للخطر، وتخلق نوعًا من التمييز في معاملة الجرائم، مع الإخلال بمبدأ المساواة أمام القانون؛ ما يُعد قيدًا على سيادة القانون وتقويضًا لمبدأ الشفافية وإعاقةً للحق في التقاضي والحصول على محاكمة عادلة، مع الإخلال بمبدأ الاستقلالية والحياد، ومخالفة مبدأ استقلال القضاء، وفتح المجال أمام التعسف واستخدام السلطة، وجعل المحاكمة خصمًا وحكمًا في ذات الوقت، والتعدي على حق المتهم في الحصول على محاكمة عادلة وضمانات الدفاع عن النفس، وإحالة المحامي إلى النيابة العامة أو إلى رئيس المحكمة.
ويتضمن المشروع تقويضًا لحق المتهم في الحصول على دفاع كاف وحر، ويترك المجال لتأويل واسع؛ ما يعرض المحامي إلى المحاكمة التأديبية أو الجنائية.
ويمنح المشروع حصانة إضافية لأعضاء النيابة العامة ومأموري الضبط القضائي؛ وهو تمييز قد يتعارض مع مبدأ المساواة أمام القانون؛ ما يؤدي إلى استخدام السلطة بشكل تعسفي مع منع حضور الجلسات لفئات معينة.
ويشكل غياب الشفافية، والحق في الحصول على المعلومات، وتقييد حرية الإعلام والنشر، انتهاكًا للحق الأساسي في المحاكمة العلنية، مع عدم إتمام الجلسات إلا بإذن النيابة، مع تقييد حق الدفاع في تفنيد الدفوع واستجواب شهود الإثبات الواردين في أدلة الثبوت في إفساد الشهادة أو التشكيك فيها.
وتضمن المشروع حرمان المتهم من التصرف في أمواله أو إدارتها؛ بسبب حكم صادر في غيابه؛ ما يُعد تقييدً صارخ غير مبرر غير مبرر لحقوقه الشخصية والمالية واعتداءً على الملكية الخاصة.
ويؤسس المشروع ويشرعن التحقيق ونظر أوامر الحبس والمحاكمات داخل أماكن شرطية بمراكز الإصلاح والتأهيل وأقسام الشرطة، مع أنها تابعة للسلطة التنفيذية، وتوسيع صلاحيات التحقيق والمحاكمات في منع الكشف عن الشخصية الحقيقية للشهود بكافة وسائل وتقنيات الاتصال الحديثة المناسبة أثناء الإدلاء بأقوالهم، مع حرمان المتهم من مراجعة أقواله والتوقيع عليها، سواء هو، أو الشهود، أو الخبراء، أو المتهمون.
وتغلب في المشروع سلطة الاتهام على الدفاع، مع عدم الحق في التظلم إلى القضاء في قرارات النيابة العامة، علاوة على مواد تخالف القواعد والمعايير والمبادىء الدستورية والقانونية الدولية بضمانات المحاكمة العادلة.
لابد من إعادة النظر في القانون القديم أو المشروع الحالي لتلافي أوجه القصور فيه، وإضافة مواد تكون في صالح المجتمع، وتقدم حلولًا لمشاكل ظهرت في التطبيق العملي، وتستجيب لمتغيرات دستورية جعلت القانون المطبق حاليًا غير صالح.
ويتجاهل كثير من الناس الحرية التي أعطاها الله سبحانه وتعالى للبشر جميعًا بما في ذلك الحرية الدينية؛ فالقبول بغير ذلك يتنافى مع كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية التي كفلها له الدين والدستور.
ويقضي مبدأ المشروعية في مدلوله العام بسيادة القانون وخضوع الكل له حكامًا كانوا أو محكومين؛ فلا توجد مشروعية تُخوِّل للمشرع أن يخالف مواد الدستور أو القواعد الدستورية.
ليس من حق الإدارة أو التشريع العبث بحقوق الأفراد المكتسبة من القوانين أو الدستور؛ ففلسفة أي قانون أن يكون لصالح المواطن والمجتمع وعدم الانتقاص من الحقوق وتقييد الحريات.
لذا نأمل من نواب البرلمان، الدفاع عن حقوق الأفراد وحرياتهم، والحفاظ على المال العام، وتطوير المجتمع من خلال التشريعات التي يصدرونها.
وينبغي ألا يصدر تشريع مخالف لقواعد الدستور حتي لا نكون أمام مشهد درامي مدهش؛ برفع دعوى قضائية أمام المحكمة الدستورية لإبطال التشريع المخالف للدستور بمجرد صدوره. فلا نميل الي إصدار قانون تفصيل يقضي على كل شئ في المجتمع؛ فأعضاء البرلمان ممثلون للشعب وليس للسلطة التنفيذية.
ومن هنا لابد أن يلتزم قانون الإجراءات الجنائية المزمع إصداره بمعنى العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ولا ينتقص من الحقوق ويقيد الحريات.
إنَّ الاعتراف بالحقوق الفردية هو المعيار الذي يميز الدولة القانونية عن الدولة الاستبدادية؛ فمتى تم الاعتراف للأفراد بحقوق وحريات قبل الحاكم وتأكد وجود هذه الحقوق واحترامها تكون الدولة القانونية.