تعتبر معركة المنصورة الجوية، التي دارت يوم 14 أكتوبر 1973، ثان أغلى الانتصارات التي حققتها قواتنا الجوية المصرية، في العصر الحديث، بعد الضربة الجوية، الناجحة بامتياز، يوم 6 أكتوبر من نفس العام. يوضح اسم المعركة، أنها دارت في سماء المنصورة، وتحديداً فوق منطقة مطارات المنصورة العسكرية.
اشترك في تلك المعركة الجوية 200 طائرة حربية، منهم 120 طائرة تابعة لقوات العدو الإسرائيلي، من أنواع الفانتوم وسكاي هوك وميراج 2000، مقابل 80 طائرة حربية تابعة للقوات المصرية، من طراز ميج 21 وسوخوي 7 وميراج 2000، إضافة إلى محطات الرادار المصرية، المسئولة عن توجيه وإدارة أعمال قتال تلك الطائرات المصرية.
دارت أحداث هذه المعركة، العظيمة، على مدار 53 دقيقة، لتُسجلها المراجع العسكرية، وتُخلدها حتى يومنا هذا، كأطول، وأقوى، وأشرس، المعارك الجوية في التاريخ العسكري الحديث، والتي انتهت بانتصار القوات الجوية المصرية. فرغم التفوق العددي والنوعي للطائرات الإسرائيلية، إلا أن البيانات والحقائق الموثقة عن تلك المعركة، أكدت حجم الخسائر بين صفوفهم وصلت إلى 17 طائرة إسرائيلية، بينما خسرت القوات الجوية المصرية خمس طائرات، فقط، سقطت اثنتان منهم بسبب نفاذ الوقود.
أما بالنسبة لي، فلتلك المعركة قصة خاصة، عاصرتها أثناء فترة دراستي في كلية كمبرلي الملكية بإنجلترا، عام 1975، والتي كان من ضمن برنامجها الدراسي، زيارة كلية أركان حرب الجوية في براكنل، لمدة أسبوع، فيما يعرف بفترة التزاوج بين القوات البرية التابعة لكلية كمبرلي، والقوات الجوية التابعة لكلية براكنل، ليتعرف خلالها دارسي كل سلاح على أساليب التعاون في أي معركة، فيما يُطلق عليه “معركة الأسلحة المشتركة الحديثة”، والتي تتعاون فيها مختلف القوات، بتنوع أسلحتهم، لتحقيق النصر.
أذكر جيداً، أنه في أول أيام تلك الزيارة، تجمع في القاعة أكثر من 250 ضابط، من أكثر من 60 دولة، من كل أنحاء العالم، لمناقشة فنون القتال، وسبل التعاون بين القوات البرية والقوات الجوية، ودارت المحاضرة الأولى حول نشأة وتطوير القوات الجوية، عبر التاريخ، بدءاً من الطائرات المروحية، ثم النفاثات، وصولاً إلى أنواع الطائرات الأسرع من الصوت، فضلاً عن تطور الإمكانات الملاحية للطائرات، والنظم الفنية الحديثة في علم الطيران، حتى أنظمة المحاكاة الجديدة لتدريب الطيارين.
ولما حان موعد المحاضرة الثانية، كانت المفاجأة أن تم عرض أحدث معركة جوية في التاريخ الحديث، فإذا بي أمام عرض، على شاشة المحاضرة، لمعركة المنصورة الجوية بين القوات الجوية المصرية، والقوات الجوية الإسرائيلية،
استعرض خلالها المحاضر تفاصيل القتال الذي دار في هذه المعركة لمدة 53 دقيقة، وتابع عمليات إقلاع الطائرات الإسرائيلية والمصرية من المطارات المختلفة، خاصة أن طرفي هذه المعركة الجوية استخدما، لأول مرة، أسلحة الحرب الإلكترونية الحديثة، من حيث التشويش على طائرات الخصم لكل طرف، والإجراءات المضادة لكل طرف للتغلب على عمليات التشويش، وهو ما لم يكن متعارف عليه قبل تلك المعركة.
وعندما تطرق المحاضر لإمكانات طائرات كل طرف، ظهر التفوق العددي، والنوعي، للطائرات الإسرائيلية، أمام الطائرات المصرية، وهو ما علق عليه المحاضر بقوله أن ما حدث في معركة المنصورة الجوية يؤكد لنا، كضباط طيارين، أن التدريب في وقت السلم، سواء على فن قيادة الطائرات الحربية، أو التخطيط، أو إدارة العملية، هو ما حقق النصر لمصر، ومكّن طياري قواتها من التغلب على الضعف النسبي لإمكانات الطائرة الميج، أمام الفانتوم وسكاي هوك. كما أشاد المحاضر بمستوى تدريب إدارة العملية، خاصة في التنسيق والمزامنة بين الطائرات المصرية ووسائل الدفاع الجوي المصري، فلم تسقط طائرة مصرية بنيران صديقة، رغم حائط الصواريخ التابع للدفاع الجوي المصري، الذي كان سبباً في إرباك القوات الجوية للعدو الإسرائيلي منذ اندلاع حرب أكتوبر 73، وحيّد قدراتها.
وتطرق المحاضر لارتفاع مستوى تدريب الأطقم الأرضية المصرية، المعنية بتوجيه الطائرات، مدللاً على ذلك بتكتيكات المخطط ومدير عملية المنصورة، على الأرض، الذي كان يدفع بالمقاتلات المصرية، بالتزامن مع استهلاك الطائرات الإسرائيلية لمعظم وقودها، فتندفع خلفها الطائرات المصرية، لتدميرها، يقيناً من أنه لم يتبق لها من الوقود، إلا ما يسمح لها بالعودة للقواعد الإسرائيلية، دون القدرة على الاشتباك. كما أشاد المحاضر بقدرة الأطقم الفنية المصرية، على أرض المطارات المصرية الحربية، فيما يخص سرعة إعادة تموين الطائرات بالوقود بعد عودتها من المهمة، وتطبيق الكشف السريع للصيانة، ثم إعادة تذخير الطائرات بالذخائر المطلوبة، وهو ما كان له الفضل في سرعة عودة الطائرات المصرية إلى سماء المعركة.
كما أكد مراراً على أن كفاءة تدريب الطيارين المصريين، كأن أحد الأسباب الرئيسية المساعدة على تخطي عقبة التراجع النسبي لكفاءة الطائرات الميج 21 والسوخوي، أمام نظائرها من الفانتوم وسكاي هوك، لافتاً النظر إلى أن الطيارين الإسرائيليين دخلوا هذه المعركة، مرتكزين على شهرتهم في حرب 67، بما أشاعوه عن أنفسهم بأنهم “اليد الطولى” للجيش الإسرائيلي، بينما خاضها المقاتل المصري، معتمداً على تدريبه، ويقينه، وروحه المعنوية المرتفعة، فتحقق له النصر في هذه المعركة الجوية.
ستظل هذه المعركة، فوق سماء المنصورة، أهم المعارك الجوية في التاريخ الحديث، ليس وفق تقديراتنا، فحسب، وإنما بشهادة وتوثيق العالم أجمع، فاستحقت أن تُخلد ذكراها لتفتخر بها القوات الجوية المصرية، والقوات المسلحة المصرية، وعموم شعب مصر العظيم.