ستظل حرب أكتوبر 1973، هي أغلى انتصارات الشعب المصري، وقواته المسلحة، التي ورغم مرور واحد وخمسون عام عليها، إلا أنني لازلت أشعر وكأنها كانت بالأمس القريب.
بدأت الحرب، بالنسبة لنا، منذ هزيمة يونيو 67، عندما استولى العدو الإسرائيلي على شبه جزيرة سيناء، بالكامل، ورفع أعلامه على الضفة الشرقية لقناة السويس، وتوقفت حركة الملاحة في القناة، لتبدأ بعدها حرب الاستنزاف، التي حارب فيها الشعب المصري، وجيشه العظيم، ملحمة دامت ست سنوات، تم خلالهم تهجير ثلاث مدن، هي بورسعيد والإسماعيلية والسويس، بالتزامن مع إعادة تسليح وتنظيم وتدريب الجيش المصري على الأسلحة الجديدة، والتخطيط لحرب أكتوبر 73 والتدريب على الخطة.
وجاء يوم السادس من أكتوبر لتبدأ القوات المسلحة المصرية أعظم حروبها في التاريخ الحديث، وتحقق نصراً مبيناً على الجيش الإسرائيلي. وفي مثل هذا اليوم، من كل عام، أجدني استعيد ذكريات كل تفاصيله، التي لم تفارقني يوماً؛ عندما كنت أحد ضباط غرفة عمليات القوات المسلحة، والتي دخلناها في صباح يوم السادس من أكتوبر، ونحن على علم بأن اليوم، هو يوم الهجوم، واقتحام قناة السويس. وبدأت البلاغات الأولى تتوالى، بالفعل، سواء بتمام استلام القادة لتوقيت الهجوم، وتمام استعداد مجموعة المدمرات والغواصات في البحر الأحمر، لتنفيذ مهمة إغلاق مضيق باب المندب، أمام الملاحة الإسرائيلية.
وفي تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً، رفعنا خرائط التدريب من على جدران مركز العمليات، لنضع خرائط “الخطة جرانيت”، لاقتحام قناة السويس، وتدمير خط بارليف، وتكوين رأس كوبري بعمق 15 كم شرق قناة السويس. وفى الواحدة ظهراً، وقبل بدء الهجوم، حضر الرئيس محمد أنور السادات، إلى غرفة العمليات، يتبعه جنود يحملون الشطائر والعصائر، ليبلغنا بأن فضيلة مفتي الديار المصرية قد أباح لنا، نحن المقاتلون على الجبهة، الإفطار في نهار رمضان. فتسلمنا الشطائر والعصائر، إلا أننا وضعناها جانباً، فمن منا يهتم بطعام أو شراب في تلك اللحظات الحاسمة من عمر الوطن.
وبدأ العد التنازلي لشن الحرب، وتلقينا البلاغات بوصول قواتنا خلف الخطوط، في عمق سيناء، لإبلاغنا عن تحرك احتياطيات العدو الإسرائيلي، وما هي إلا دقائق حتى انطلقت قواتنا الجوية في ضربتها الأولى، معلنة بدء الهجوم، ورأينا على شاشات مركز العمليات، طائراتنا الحربية تعبر القناة، فتيقنا حينها أن المعركة قد بدأت، بعد سنوات وسنوات من الانتظار، وتابعنا، بحماس وشغف وفخر، توالي البلاغات بسقوط نقاط خط بارليف، وعبور موجات الاقتحام الأولى وفقاً لخطة التوجيه 41، التي أعدها الفريق سعد الدين الشاذلي.
ومازلت أتذكر تفاصيل واحدة من أسعد لحظات يوم السادس من أكتوبر 73، عندما التقطت مخابراتنا الحربية المصرية، إشارة لاسلكية، موجهة من قائد القوات الجوية الإسرائيلية، لجميع طياريه، بمنع الاقتراب من قناة السويس لمسافة 15 كم، بعدما شاهد كثافة حائط الصواريخ المصري، على شاشة الرادار الإسرائيلي. أرسل تلك الرسالة دون تشفير، غير عابئ بالتقاطنا لها، أمام محاولة إنقاذ قواته. حينها تيقنت من نجاح الهجوم المصري، ومن قدرة قواتنا البرية على عبور القناة، واقتحام خط بارليف، بعدما تمكن رجال الدفاع الجوي المصري من شل حركة القوات الجوية الإسرائيلية، وتحييد قدرتها على التدخل في هذه العملية، ليخلد التاريخ فضلهم العظيم، في تحقيق النصر في ملحمة أكتوبر 73.
وبعد اقتحام الموجات الأولى من قوات المشاة لخطة بارليف، واندفاعها في عمق سيناء، بدأ المهندسون العسكريون في فتح الثغرات في الساتر الترابي، بواسطة مضخات المياه، تلك الفكرة العبقرية التي اقترحها اللواء باقي زكى يوسف، الضابط المهندس، اعتماداً على خبرته في بناء السد العالي. وخلال أربعة ساعات.
كانت قواتنا قد نجحت في فتح الثغرات، في الساتر الترابي، بارتفاع 20 متر. وبعد عبور موجات العبور، وعددها 12، بالقوارب المطاطية، ومع آخر ضوء، تقدمت عربات الكباري لتلقي بالبراطيم، في قناة السويس، لإنشاء خمسة كباري، بمعدل كوبري لكل فرقة مشاة. ومع سطوع القمر، كانت الكباري قد اكتملت، فاندفعت الدبابات المصرية في مهمة العبور للضفة الشرقية، يليها وحدات المدفعية، وعربات القيادة على مختلف المستويات. ومع صباح يوم السابع من أكتوبر.
كانت فرق المشاة الخمس، بقوام 200 ألف مقاتل مصري، قد وصلت للضفة الشرقية للقناة، وأسقطت نقاط خط بارليف، وتصدت ودمرت كل الاحتياطات المدرعة الإسرائيلية، التي فشلت في تدمير قواتنا التي عبرت القناة.
وفى يوم التاسع من أكتوبر من عام 1973، ذلك اليوم الأسود في تاريخ إسرائيل، وقفت جولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل، حينها، وبجانبها وزير دفاعها، موشى ديان، في مؤتمر صحفي عالمي، لتعلن هزيمة إسرائيل، وتعترف بأن بلادها تصارع، في تلك اللحظة، من أجل البقاء، رغم الدعم، غير المشروط، الذي وفرته الولايات المتحدة، بفتح جسر جوي لإسرائيل، لإمدادها بأحدث الأسلحة العسكرية في الترسانة الأمريكية.
وبعد مرور أكثر من نصف قرن على هزيمة إسرائيل، لازلنا نسمع بعض العواء والنعيق، في محاولة لتزييف الحقائق، مرة من خلال عرض فيلماً لتمجيد جولدا مائير، ومرات بادعاء أن أشرف مروان كان جاسوساً لإسرائيل، متناسيين، عن عمد، تقريرهم الذي أعدته “لجنة أجرانات”، والذي رغم عدم نشره كله، بعد، إلا أن ما نُشر منه عن إقالة رئيس أركان حرب الجيش الإسرائيلي ومدير المخابرات الحربية (أمان)، لتقصيرهم المتسبب في هزيمة إسرائيل، يكفينا للدفاع عن تاريخنا المجيد، وتخليد ذكرى السادس من أكتوبر، كيوم عز وفخر الشعب المصري، وجيشه العظيم.