علمنا التاريخ أن حقائقه، ووقائعه، تظهر، ولو بعد حين، مهما حاول البعض إخفاءها، خاصة في عصرنا الحديث، الذي تسوده وسائل التكنولوجيا، ومختلف منصات التواصل الاجتماعي، التي تنقل الأخبار لحظة وقوعها، فضلاً عما نكتشفه من مذكرات العديد من رجال السياسة، والمشاهير، التي صارت أحد أهم وسائل معرفة الحقائق، التي كانت مختفية لبعض الوقت.
ولعلنا نتذكر واقعة اغتيال أمريكا لقاسم سليماني، قائد فيلق القدس، في يناير 2020، الذي تعده إيران بطلاً شعبياً، والعقل المُدبر لأنشطتها في الشرق الأوسط، تلك الواقعة التي أعلن البنتاجون مسئوليته عن تنفيذها بنجاح، بتوجيه، عندئذ، من الرئيس دونالد ترامب. نفذت الولايات المتحدة العملية، عند وصول قاسم سليماني إلى مطار بغداد، وأثناء خروجه في قافلة مكونة من سيارتين، بصحبة آخرين، بينهم قائد كتائب حزب الله العراقي، المُلقب باسم أبو المهدي المهندس، الذي تم اغتياله مع سليماني في هذه العملية. أثارت تلك العملية غضب الشعب الإيراني، الذي طالب بالقصاص لبطلهم قاسم سليماني، وفي اليوم التالي، أعلنت إيران أنها قصفت القاعدة العسكرية الأمريكية بالعراق، عين الأسد، انتقاماً لمقتل قاسم سليماني.
إلا أنه في العام الجاري، وأثناء إحدى الجولات الانتخابية للرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، فوجئ العالم بإعلانه أن هجوم إيران، على قاعدة عين الأسد، تم بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية، بعدما أجرت إيران اتصالات هاتفية مع الإدارة الأمريكية، يوم مقتل قاسم سليماني، للإبلاغ عن عزمها قصف قاعدة عين الأسد، وذلك حتى تأخذ أمريكا حذرها، ولا تقوم بأي رد فعل، مع التأكيد على قصر العملية على استهداف أسوار القاعدة، فقط، والتعهد بعدم المساس بأي جندي أمريكي. وهو ما تم بالفعل، وقُصفت أسوار القاعدة العسكرية، وظهرت الإدارة الإيرانية، أمام شعبها، في الصورة المنشودة.
وفي الأيام الجارية، دفعتنا الأخبار لاسترجاع تفاصيل وقائع تفجير خطوط نورد ستريم 1 و2، تلك الخطوط المسئولة عن نقل الغاز الطبيعي من روسيا إلى ألمانيا، وكل دول أوروبا، عبر بحر البلطيق، والبالغ أطوالها نحو 1,222 كم، كأطول خطوط أنابيب، تحت البحر، في العالم، وتعد المصدر الرئيسي لإمدادات الغاز الطبيعي لدول أوروبا، بالكامل، التي تعتمد عليه لتدبير ما يزيد عن 50% من احتياجاتها عبر تلك الخطوط. ولعل ذلك يفسر كبر حجم المأساة التي ألمت بالدول الأوروبية، جراء تفجير تلك الخطوط، في سبتمبر 2022، خاصة وأن توقيت تفجيرها تزامن مع بدء فصل الشتاء، القارس، على أوروبا، التي لم يترك أمامها خيار، أو بدائل، سوى استيراد الغاز المسال، وما يتطلبه ذلك من استثمارات ضخمة، وعاجلة، لإنشاء محطات لتحويله إلى غاز طبيعي.
وأمام أهمية خطوط نورد ستريم، التي تتجاوز كونها مجرد أنبوب، أو أنابيب، لنقل الغاز، وإنما منظومة متكاملة لسد احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعي الروسي، دون الحاجة للمرور عبر دول أخرى، فقد اتجهت كل أصابع الاتهام، حينئذ، إلى روسيا، متهمة إياها بمحاولة إخضاع أوروبا، وهو ما رفضته روسيا، ونفته نفياً قاطعاً، باعتبارها أحد الخاسرين، لما يمثله تفجير تلك الخطوط من خسارتها لإيرادات ودخل من العملات الصعبة، حتى أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، وصف تلك الانفجارات بأنها “عمل غير مسبوق من أعمال الإرهاب الدولي”، متهماً، بدوره، الدول الأوروبية بذلك التدمير، بهدف إضعاف الاقتصاد الروسي.
وفجأة، خرجت علينا صحيفة وول ستريت جورنال، في شهر أغسطس الجاري، بعدد من الأخبار، التي تفيد بأن يختاً بحرياً صغيراً، انطلق من شواطئ أوروبا، حاملاً على متنه، ستة أفراد، بينهم غواصون مدنيون، وامرأة لأغراض التضليل، مستهدفين تدمير شريان الغاز الرئيسي لأوروبا، ووصلوا إلى مكان الخطوط، وتم التفجير، الذي كلف دول أوروبا مليارات الدولارات، نتيجة توقف الغاز الروسي. وأفادت الصحيفة بأن التحقيقات التي أجرتها ألمانيا، على مدار عامين، بواسطة أجهزتها الاستخباراتية، لكشف المنفذين، أثبتت ضلوع عناصر أوكرانية في التفجير، وتوافقت أقوال الأشخاص المشاركين في العملية، مع تلك النتيجة.
أفادت الأخبار المتداولة بأن الخطة تم الإعداد لها بواسطة مجموعة من ضباط المخابرات الأوكرانية، وتم التخطيط لها بدقة كبيرة، وسرية عالية، حتى لا يتم اكتشافها بمعرفة الجانب الروسي، أو الاستخبارات الهولندية، وتم تخصيص ميزانية لتنفيذها تقدر بنحو 300 ألف دولار أمريكي. وبأن الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، قد أحيط علماً بالعملية، منذ بدايتها، ووافق على الخطة الموضوعة لها، قبل أن يحاول التراجع عنها عند تنفيذها، خوفاً من اكتشافها، خاصة وأن أمريكا تراقب كافة الأوضاع في المنطقة بدقة، إلا أن مجموعة التنفيذ كانت قد انطلقت، ولم يكن بينها وبين الجهات الأوكرانية أية اتصالات، للحفاظ على سرية العملية، وعدم تعريضها للاكتشاف.
وعلى أثر التحقيقات، أصدر القضاء الألماني، في بداية الشهر، مذكرة توقيف بحق غواص أوكراني محترف، بتهمة اشتراكه في تنفيذ تلك العملية، مع آخرين، ورغم نفي كييف ضلوع أي من عناصرها في تلك العملية، إلا أن التحقيقات الألمانية، المؤكدة بشهادة شهود حقيقيين، وضعت أوكرانيا في موقف حرج، أمام العالم، وأمام الدول الأوروبية التي كانت تعتمد على الغاز الروسي بصفة خاصة. ومما لا شك فيه، أن تلك الحقائق، التي انكشفت بعد عامين من الحدث، ستكون أحد أهم أوراق الضغط التي ستستخدمها روسيا، حال رغبتها في الوصول إلى اتفاقية سلام مع أوكرانيا، لإضعاف الجانب الاوكراني في أية مفاوضات أو اتفاقيات محتملة.
كاتب المقال
اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج
Email: [email protected]
واحداً من أهم أبناء القوات المسلحة المصرية.
ولد في 14 يناير في مدينة بورسعيد، لأب وأم مصريين.
تخرج، سمير فرج، من الكلية الحربية عام 1963.
والتحق بسلاح المشاة، ليتدرج في المناصب العسكرية حتى منصب قائد فرقة مشاة ميكانيكي.
تخرج من كلية أركان حرب المصرية في عام 1973.
والتحق بعدها بكلية كمبرلي الملكية لأركان الحرب بإنجلترا في عام 1974، وهي أكبر الكليات العسكرية في المملكة البريطانية،وواحدة من أكبر الكليات العسكرية على مستوى العالم.
فور تخرجه منها، عُين مدرساً بها، ليكون بذلك أول ضابط يُعين في هذا المنصب، من خارج دول حلف الناتو، والكومنولث البريطاني.
تولى، اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج، ، العديد من المناصب الرئيسية في القوات المسلحة المصرية، منها هيئة العمليات، وهيئة البحوث العسكرية. وعمل مدرساً في معهد المشاة، ومدرساً بكلية القادة والأركان. كما عين مديراً لمكتب مدير عام المخابرات الحربية ورئاسة إدارة الشئون المعنوية.
تتلمذ على يده العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية البارزة، إبان عمله مدرساً في معهد المشاة، ومدرساً في كلية القادة والأركان المصرية.
لم تقتصر حياته العملية، على المناصب العسكرية فحسب، وإنما عمل، سمير فرج، بعد انتهاء خدمته العسكرية، في العديد من المناصب المدنية الحيوية، ومنها وكيل أول وزارة السياحة، ورئيس دار الأوبرا المصرية، ومحافظ الأقصر. ويشغل حالياً منصب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة NatEnergy.
وله العديد من الكتب والمؤلفات العسكرية، خاصة فيما يخص أساليب القتال في العقيدة الغربية العسكرية. كما أن له عمود أسبوعي، يوم الخميس، في جريدة الأهرام المصرية ومقال أسبوعى يوم السبت فى جريدة أخبار اليوم.