أثناء خدمتي بالقوات المسلحة المصرية، وأنا برتبة مقدم، حصلت على ماجستير العلوم العسكرية من كلية الأركان حرب المصرية، ثم ماجستير العلوم العسكرية من كلية كمبرلي الملكية البريطانية، وبعد عودتي إلى مصر، أصبحت مدرساً في كلية القادة والأركان.
إلا أن شغفي بالتاريخ عموماً، والمصري خصوصاً، كان الدافع وراء قراري بالانتساب لكلية الآداب، بجامعة عين شمس، لدراسة التاريخ المصري، الذي اهتممت به من الصغر، ليس فقط من الناحية التعليمية، خلال مختلف المراحل الدراسية، بل وحتى كهواية شخصية.
وبالفعل حصلت على درجة الليسانس، بتفوق، من جامعة عين شمس العريقة، التي كانت سبباً في زيادة تعلقي بالتاريخ، عن ذي قبل؛ فلم يعد التاريخ مجرد حكاية، بتسلسل زمني متعاقب، وإنما سلسلة من العبر والدروس، المتاحة للتعلم، لمن يعي … وأدركت معنى المقولة الشهيرة بأن “التاريخ يعيد نفسه”، فحتى وإن كان لا يعيد نفس أحداثه دائماً، إلا أننا لابد وأن نعتبر من دروسه.
ومن هذا المنطلق قررت أن أقدم لكم نبذة صغيرة عن مصر عبر التاريخ … كانت البداية عندما جاء الهكسوس، غزاة لمصر، قبل عام 1650 قبل الميلاد (ق. م.)، ذلك الشعب، إن جازت تسميته بشعب، الهمجي، مهجن الأصول، ومختلط الأنساب، الناطق باللغة السامية، ليستمروا في حكم مصر لنحو مئة عام، قبل أن يخرجوا منها مهزومين، ومدحورين، على يد أحمس الأول.
وبعد تلك الأعوام المئة، سأل المؤرخون أنفسهم، عما إن كان المصريون قد تكلموا لغة الهكسوس؟ فجاءت الإجابة بالنفي. وبعد الهكسوس جاء الآشوريون إلى مصر، واحتلوا وادي النيل لمدة ١٤ عاماً، ما بين عام 677 إلى عام 663 ق.م.، وتكرر السؤال، عما إذا تكلم المصريون لغة الاشوريين؟ فكانت الإجابة، مرة أخرى بالنفي. وبعدهم جاء الفرس، محتلين، في عام 525 ق.م.، وبعد هزيمتهم على يد القائد الفرعوني نخيبتو، وبعد احتلال دام 150 عاماً، استدعى المؤرخون نفس السؤال، وتأكدوا، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن المصريون لم يتكلموا لغة الفرس.
ثم وصل اليونانيون، إلى واحة سيوة، سنة 332 ق.م.، بقيادة الإسكندر الأكبر، الذي أعلن أنه ابن الإله آمون. وكالعادة خرج اليونانيون من مصر، دون أن يتكلم المصريون اللغة اليونانية.
وبعد بعد وفاة الإسكندر الأكبر غزا البطالمة مصر في عام 333 ق.م.، وطال بقائهم في مصر لأكثر من 300 عام، حتى عام 30 ق. م.، قبل أن ينتهي عهدهم بالهزيمة في معركة أكتيوم، ومع ذلك لم يتكلم المصريون لغة البطالمة.
وتلا ذلك حكم الرومان، الذي امتد لنحو سبعة قرون، تقريباً، بدأت من عام 30 ق.م.، حتى الفتح العربي لمصر في عام 641 ميلادية (م)، على يد عمرو بن العاص، والسؤال هنا هل تكلم المصريون اللغة الرومانية بعد سبعة قرون من الاحتلال، وكانت الإجابة لا.
ومع الفتح العربي دخل الإسلام لمصر، ليعلم المصريين لغة الضاد، ولغة القرآن الكريم، ليتوالى بعد دخول الإسلام لمصر، عام 641م، الكثير من العصور الجديدة، والكثيرة، ولعل أهمها دولة المماليك، في عام 1517م، التي حكمت مصر، على يد سيف الدين برقوق. وكان أغلب المماليك من الأتراك والشركس، والألبان، واليونانيين، والسلاف، وانتهى حكمهم دون أن يتكلم المصريون لغة المماليك.
وبعد المماليك جاء الأتراك إلى مصر، واستمر محمد علي، وأولاده، في حكم مصر، لمدة أربعين عاماً، ولم يتكلم المصريون اللغة الألبانية، اللغة الأصلية لمحمد علي، بل خرج منها أولاده وأحفاده وهم يتكلمون العربية. ثم احتل الإنجليز مصر لمدة 72 عاماً، وخرجوا منها في عام 1956 ، ولم يتكلم المصريون اللغة الإنجليزية.
عكس ما حدث في دول المغرب العربي، التي وقعت، لأعوام، تحت الاحتلال الفرنسي، وبعدما حصلوا على استقلالهم، عانت الكثير من دول المغرب العربي في إعادة اللغة العربية، مرة أخرى، ولو حتى لدواوين الحكومات العربية، بعدما سادت اللغة الفرنسية فيها، حتى يومنا هذا.
وهنا كان لابد من تحليل قدرة مصر على الحفاظ على ثقافتها ولغتها وديانتها، عبر مختلف الأزمنة والعصور، ورغم ما شهد به التاريخ من هجمات وغزوات استمرت لعقود وقرون، وخلُص التحليل إلى أن الشعب المصري هو أساس قوتها وصمودها، إذ قاوم تلك الهجمات، وصمد في وجهها، دون أن يتلون بأي منها، أو أن يسمح لأي منها بطمس هويته وثقافته ومعتقداته.
وهو ما يتأكد لنا حتى يومنا هذا، فرغم ما يحيط بنا من ملمات، يبقى شعب مصر الأصيل هو مصدر قوتها، وحائطها الصد، وسدها المنيع، المحافظ على حضارتها وثقافتها ودينها الإسلامي المعتدل، والدين المسيحي للأخوة الأقباط. ورغم ما يهل علينا، اليوم، عبر القنوات المفتوحة، من ثقافات غريبة، ودخيلة على مجتمعاتنا، وبعيدة عن أصول وتقاليد الشعب المصري، تجد الشعب المصري يرفضها، ويتصدى لانتشارها،
وأبسط مثال على ذلك ثقافة المثلية التي حاولت بعض تلك الثقافات الغربية نقلها لمجتمعاتنا، فتصدى لها الشعب المصري بكل طوائفه الدينية والاجتماعية، ورفضوا، تماماً، إقحام تلك الثقافات الداخلة على الشعب المصري الاصيل.
وبعد أكثر من أربعة آلاف عام، تستمر مصر، بشعبها العظيم، في الحفاظ على الدين والثقافة والهوية المصرية، ضد هجمات العصر الحديث، من خلال السماوات المفتوحة والانترنت، وتطبيقاتها المعروفة بوسائل التواصل الاجتماعي … لأجد نفسي أردد ما أقوله دائماً … عمار يا مصر.
كاتب المقال
اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج
Email: [email protected]
واحداً من أهم أبناء القوات المسلحة المصرية.
ولد في 14 يناير في مدينة بورسعيد، لأب وأم مصريين.
تخرج، سمير فرج، من الكلية الحربية عام 1963.
والتحق بسلاح المشاة، ليتدرج في المناصب العسكرية حتى منصب قائد فرقة مشاة ميكانيكي.
تخرج من كلية أركان حرب المصرية في عام 1973.
والتحق بعدها بكلية كمبرلي الملكية لأركان الحرب بإنجلترا في عام 1974، وهي أكبر الكليات العسكرية في المملكة البريطانية،وواحدة من أكبر الكليات العسكرية على مستوى العالم.
فور تخرجه منها، عُين مدرساً بها، ليكون بذلك أول ضابط يُعين في هذا المنصب، من خارج دول حلف الناتو، والكومنولث البريطاني.
تولى، اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج، ، العديد من المناصب الرئيسية في القوات المسلحة المصرية، منها هيئة العمليات، وهيئة البحوث العسكرية. وعمل مدرساً في معهد المشاة، ومدرساً بكلية القادة والأركان. كما عين مديراً لمكتب مدير عام المخابرات الحربية ورئاسة إدارة الشئون المعنوية.
تتلمذ على يده العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية البارزة، إبان عمله مدرساً في معهد المشاة، ومدرساً في كلية القادة والأركان المصرية.
لم تقتصر حياته العملية، على المناصب العسكرية فحسب، وإنما عمل، سمير فرج، بعد انتهاء خدمته العسكرية، في العديد من المناصب المدنية الحيوية، ومنها وكيل أول وزارة السياحة، ورئيس دار الأوبرا المصرية، ومحافظ الأقصر. ويشغل حالياً منصب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة NatEnergy.
وله العديد من الكتب والمؤلفات العسكرية، خاصة فيما يخص أساليب القتال في العقيدة الغربية العسكرية. كما أن له عمود أسبوعي، يوم الخميس، في جريدة الأهرام المصرية ومقال أسبوعى يوم السبت فى جريدة أخبار اليوم.