عقود مرت، ولاتزال ذكريات الخامس من يونيو، بكل تفاصيلها، عالقة بذهني، ولا أظنها ستمحى، ما دمت على قيد الحياة، ذلك اليوم الذي لقي فيه الجيش المصري هزيمة، من إسرائيل، لم يكن له فيها يد، إذ لم يحارب، ولم يختبر، حتى، في أي لحظة، من تلك الحرب، ولكنه وُصم بالهزيمة في يوم 5 يونيو 1967.
بدأت القصة في شهر مايو 1967 ، عندما تواردت أنباء عن احتشاد قوات إسرائيلية أمام الحدود السورية، في اتجاه هضبة الجولان، وهو ما نبأ بنية إسرائيل لشن هجوم على سوريا، والاستيلاء على هضبة الجولان، فصدرت الأوامر، في مصر، بتحريك القوات المصرية إلى سيناء، في مظاهرة عسكرية، بهدف تأييد الأخوة في سوريا، ولردع العدو الإسرائيلي عن تنفيذ مخططه بالهجوم، واحتلال الأراضي السورية. ولعل أولى أخطاء القيادة العسكرية المصرية، حينها، هو عدم تحديد مهمة القوات المصرية، التي تتحرك إما في مهمة دفاعية، أو لتنفيذ عملية هجومية، أما تواجدها بهدف مظاهرة عسكرية، فهو ما لم يرد في مراجع القتال العسكري.
في ذلك الوقت، كان جزءاً كبيراً من القوات المسلحة المصرية يحارب في اليمن، أما باقي القوات الموجودة في مصر، فكان معظمها عائداً، لتوه، من تلك الحرب، وقد كنت، شخصياً، ضمن تلك القوات العائدة من اليمن، بعد ثلاث سنوات، قضيتها فيما لا يمكن تصنيفه بأنه حرباً، بمفهومها التقليدي الحديث، وإنما كانت معارك جبلية، ضد قبائل، تنفذ كمائن على الطرق الرئيسية، وهو ما كان أحد أسباب افتقار القوات المصرية العائدة من اليمن، لأساليب، ومناهج، الحروب الحديثة. المهم أنني تحركت، وأنا برتبة ملازم أول، ضمن القوات المقاتلة إلى سيناء، ووصلت إلى الحدود مع العدو الإسرائيلي، في منطقة الكونتيلا، ضمن كتيبتي المشاة، ورأينا علم إسرائيل يرفرف أمامنا على برج المراقبة، على مسافة 1200 متر، داخل حدود فلسطين المحتلة.
ولما جاء يوم الخامس من يونيو 1967، شنت قوات العدو الإسرائيلي ضربة جوية ضد المطارات والقواعد الجوية المصرية، وفي غضون ساعة واحدة، حققت سيادة جوية على سماء مصر، مُركزة على منطقة العمليات في سيناء. وحتى الطائرات المصرية، التي لم تنجح إسرائيل في تدميرها، لم تستطع الطيران، بسبب استخدام إسرائيل، في ذلك اليوم، لنوع جديد من القنابل، الفرنسية الصنع، ضد الممرات في المطارات، مما أصابها بأضرار جسيمة، منعت استخدامها، قبل إصلاحها، وإعادة تأهيلها، وهو ما يستلزم أيام من العمل المتواصل، لم تتوفر لقواتنا، حينئذ.
وبعد الضربة الجوية الإسرائيلية، صدرت لنا الأوامر بالانسحاب من على خط الحدود إلى عمق سيناء، ومع الأسف، تم الانسحاب تحت سيطرة جوية، كاملة، لطيران العدو الإسرائيلي. ووصلنا إلى منطقة نخل، وبعدها إلى ممر متلا، الذي يصل طوله إلى 32 كيلو، ويضم حارتين؛ إحداهما ذهاباً، والأخرى إياباً، فإذا بالطيران الاسرائيلي ينفذ أحد التكتيكات، المعروفة في العلوم العسكرية، بأن أغلق مدخل ومخرج الممر، ليصبح الممر مصيدة للقوات المسلحة المصرية، فاستشهد من دخله من قواتنا، بينما واصل الناجون من تلك العملية، الانسحاب سيراً على الأقدام، في اتجاه السويس، تحت وابل من قذائف الطائرات الإسرائيلية، حتى وصلنا إلى قناة السويس، لنجد كل الكباري وقد دمرها العدو، لمنع عودة القوات المصرية بأسلحتها من سيناء، فعبرنا إلى الضفة الغربية، باستخدام القوارب المطاطية، التابعة للمهندسين العسكريين، بينما طيران العدو يدمر ما بقي من أسلحة ومعدات الجيش المصري المحدودة في سيناء.
وقد كانت أكبر أخطاء القيادة العسكرية، حينها، أنها حركت القوات، إلى سيناء دون وضع خطة علمية، واضحة، للانسحاب، إذا ما استلزم الأمر، فاستغرقت تلك الرحلة، الحزينة، خمسة أيام، ووصلنا، إلى قناة السويس، في الخامسة من مساء يوم 9 يونيو ٦٧، فيما أعتبره أسوأ أيام تاريخ مصر الحديث؛ لنرى العلم الإسرائيلي يرفرف على الضفة الشرقية للقناة، بينما الجيش المصري يتم تدميره في سيناء، والرئيس عبد الناصر يعلن تنحيه عن الحكم، إلا أن الشعب المصري أعلن، في نفس اللحظة، رفضه للهزيمة، ورفضه لتنحي عبد الناصر، وتأييده لتعيين الفريق أول محمد فوزي وزيراً للحربية، ومعه الفريق عبد المنعم رياض رئيساً للأركان، لينقذ مصر، بصموده، من مصير مجهول، وليبدأ عهد إعادة بناء الدفاعات على القناة.
ومرت الشهور، ونحن نحفر الخنادق، ونزع الألغام، لمنع إسرائيل من عبور القناة، والوصول للعاصمة، ونتدرب على استخدام الأسلحة الجديدة، وقضيت السنوات الست، عمر حرب الاستنزاف، على الخط الأول للضفة الشرقية لقناة السويس، يفصلني عن خط بارليف مسافة 200 متر، هي عرض القناة. كان المخطط المصري، خلالها، يضع خطته لعبور قناة السويس، التي عُرفت، في عهد الرئيس عبد الناصر، باسم “خطة المآذن العالية”، وتطورت إلى “الخطة جرانيت”، في عهد الرئيس السادات.
وخلال حرب الاستنزاف، عانى الشعب المصري، العظيم، الكثير من المصاعب، منها التهجير من مدن القناة الثلاثة؛ بورسعيد والإسماعيلية والسويس، إلا أنه تحملها، دعماً لقيادته، ولجيشه، ليحول هزيمة يونيو 1967، إلى نصر مبين في السادس من أكتوبر من عام 1973، وليؤكد، مجدداً، أن مصر لن تهزم، أبداً، ما دام لها جيشاً قوياً، وشعباً مسانداً، وليرسي ما أكرره، دائماً، بأن الشعوب هي عماد الدول، وحائط الصد ضد أي محاولات للنيل منها، بوعيها وإدراكها وتلاحم أفرادها، على طريق تحقيق الغايات المنشودة.