من الحقائق الراسخة أن مصر بلد زراعي منذ آلاف السنين ولكن مع الأسف وفي غفلة من الزمن فإن الرقعة الزراعية – التي كانت مكونا أساسيا من ملامح الحضارة المصرية – باتت مهددة بالتآكل بفعل الزحف العمراني غير المخطط. وبدلا من الحفاظ على تلك الثروة الزراعية باقية جنبا إلى جنب مع الثروة الأثرية – تبارى الجميع في القضاء عليها بالبناء العشوائي تارة وبالتجريف تارة أخرى في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة لحسن استغلالها لتوفير احتياجاتنا الغذائية من المحاصيل المختلفة.
وعلى الرغم من محاولات زيادة الرقعة الزراعية باستصلاح اراض جديدة في قلب الصحراء شرقا وغربا إلا أن التفريط في أرض الوادي لن يعوض نظرا لما تتميز به أرض وادي النيل من خصوبة نادرة، ونظرا للتكلفة الكبيرة التي تتطلبها عملية استصلاح الأراضي الجديدة. وفي الوقت الذي تعلو فيه الأصوات الرسمية بتجريم البناء على الأراضي الزراعية بقوة القانون إلا أن الممارسات على الأرض تبرهن على أننا ماضون في طمس هويتنا الزراعية.
ولم تقتصر عملية طمس الهوية الزراعية بأرض الوادي بتناقص الرقعة الزراعية فحسب ولكن حتى ماتبقى من الأراضي الزراعية- وبفعل آفة تفتيت الملكية – فإن المساحة الزراعية نفسها تتعرض للطمس بتنامي زراعة المحاصيل غير المخططة في الآونة الأخيرة.
ومنها على سبيل المثال إحلال زراعة محصول القصب – الذي طالما اشتهرت به محافظات جنوب الصعيد – بمحاصيل دخيلة مثل الموز الذي بات ملازا للمزارعين، خاصة مع تحديد سعر طن القصب بثمن غير عادل، وهو الأمر الذي دفع العديد من المزراعين للعزوف عن زراعته والتحول لزراعة الموز الذي وجد فيه المزارعون ضالتهم لتعويض التكاليف وبيع محصول الموز بالسوق الحر والتحرر من سعر التوريد الجبري للقصب،
ومن ثم صار لدينا فائضا بالسوق من الموز على حساب محصول استراتيجي هو قصب السكر، والذي تشير الإحصاءات في العامين الأخيرين لتناقص المساحات المزروعة منه بنحو 50 ألف فدان لتصبح 300 ألفا فقط بدلا من 350 ألف في السابق.
وهو مما انعكس على تراجع إنتاج السكر محليا واللجوء لاستيراد السكر بالعملة الصعبة، وفقدان العديد من الصناعات والأنشطة الأخرى المصاحبة والقائمة على القصب من ورق وخشب وعسل وتربية ماشية وغيرها. ومن المفترض أن ارض الوادي الخصبة هى الأحق بزراعة القصب من الموز الذي يمكن زراعته بالأراضي الجديدة الصحراوية،
ومن أجل إفساح المجال للقصب وللحفاظ على البنية التحتية للعديد من مصانع السكر التي باتت مهددة بالإغلاق وتسريح مابها من عمالة مع تناقص المساحة المزروعة.
لذا لابد من وقفة والنظر لهذه الظاهرة المتنامية بزحف محصول الموز على حساب القصب بجنوب الصعيد، وتجنب طمس من نوع آحر للهوية الزراعية المصرية، وضرورة التخطيط من جديد لكيفية الارتقاء بمحصول القصب الاستراتيجي بدراسة المعوقات أمام المزارعين والعمل على حلها وأهمها دعم مزارعي القصب بوضع سعر عادل للطن وتعظيم العائد للفدان بإدخال اصناف جديدة أعلى إنتاجية، ومقاومة الآفات وإدخال الآلات الحديثة في الزراعة لتوفير الجهد وتقليل الفاقد، وتسويق مفهوم زراعة القصب بالشتلات بشكل واقعي قبل فوات الأوان.