على مدار الأسبوعين الماضيين، وفي إطار سلسة من المقالات التي سنستعرض فيها الأحداث الجارية في العالم، حالياً، ومدى تأثيرها على أيام عام 2024، تناولت مجريات الحرب الروسية الأوكرانية، ثم حرب غزة التي شنتها إسرائيل على الشعب الفلسطيني،
واليوم سأتناول ما يجري في الاتجاهات الاستراتيجية لمصر، الجنوبية والغربية، أو السودان وليبيا.
وقبل أن نتابع أحداث السودان، ذلك البلد الشقيق المحب لمصر، والذي يعد بالنسبة لنا، أمناً قومياً مباشراً، دعونا نسترجع لمحة تاريخية عن العلاقات الثنائية، فالسودان ومصر كانتا دولة واحدة حتى ثورة 52، حتى منحتها مصر استقلالها، بناءً على طلبها. وخلال فترة حكم البشير، التي امتدت ثلاثون عاماً، مرت العلاقات الثنائية بأسوأ حالاتها، نتيجة معاداته لمصر، فضلاً عما سببه للسودان من أضرار بالغة وعقوبات اقتصادية، نتيجة تصنيفها على قوائم الدول الداعمة للإرهاب، بعد استضافته لأفراد الجماعات الدينية المتطرفة، العائدة من أفغانستان، وخاصة بن لادن، وعناصر تنظيم القاعدة. ورغم معاداة البشير لمصر، إلا أنها لم تأل جهداً، مع الولايات المتحدة، لرفع السودان من قوائم الإرهاب.
وبعد عزل البشير شهد السودان، سلسلة من الصراعات وعدم الاستقرار، حتى توقيع الاتفاق السياسي الإطاري، بين كافة الأحزاب السودانية، على أساس تسليم الحكم لسلطة مدنية، وإبعاد الجيش عن السياسة، ودمج قوات الدعم السريع مع قوات الجيش، وإجراء انتخابات جديدة، بناءً على دستور جديد، وتنفيذ اتفاقية جوبا. وكانت الأمور تسير في اتجاهها الصحيح، حتى ادعت قوات الدعم السريع، فجأة، أن الاندماج مع قوات الجيش يحتاج إلى سنوات عدة لإتمامه، وعلى أثر ذلك نشب القتال واحتدم الصراع بين القوتين، وأصبحت الحياة في السودان مأساة إنسانية، مما دفع أكثر من 5 مليون مواطن لهجرة منازلهم، وصل منهم، رسمياً، 300 ألف سوداني إلى مصر، في حين لم يأبه طرفي الصراع إلا بالقتال والسيطرة على أكبر عدد من المدن السودانية.
وقد تحركت مصر، على الفور، من خلال دعوة الرئيس السيسي إلى مؤتمر سلام للدول المجاورة للسودان، وحاولت الولايات المتحدة والسعودية التدخل لإيقاف القتال، عدة مرات، وحالياً، تسعى دول “منظمة الإيجاد” للتواصل مع الأطراف المختلفة، لوقف إطلاق النار. وعلى الاتجاه الآخر، قام حميدتي، قائد قوات الدعم السريع، بزيارة أثيوبيا، حيث التقى مع رئيس وزراءها وعبد الله حمدوك، رئيس وزراء الحكومة الانتقالية السودانية الأسبق، في محاولة لإيجاد صيغة لحل المشكلة، وما زالت كل الأطراف، سواء في الاتحاد الأفريقي أو مصر، تحاول إيجاد مخرج للأزمة السودانية، التي وصلت إلى نفق مسدود.
أما على الاتجاه الاستراتيجي الغربي، فتعتبر ليبيا أمناً قومياً مباشراً لمصر، بحدود مشتركة تمتد إلى 1200 كيلو متر، وقد سادها، منذ رحيل القذافي، النزاعات وعدم الاستقرار، وانقسم الحكم فيها بين الشمال بقيادة عبد الحميد دبيبة، رئيس الوزراء المنتهية ولايته في طرابلس، وبين الغرب بقيادة أسامة حماد، رئيس الوزراء المعين من البرلمان في مدينة بني غازي، مع وجود 20 ألف من المرتزقة القادمين من شمال سوريا وغرب أفريقيا، فضلاً عن التواجد العسكري التركي، من خلال قواعد عسكرية بحرية وجوية، وسيطرة جوية على الأجواء الليبية.
وهكذا، تعيش ليبيا في مصير مجهول، حيث فشلت كل الأطراف في الاتفاق على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية للبلاد، يتم بمقتضاها تنظيم البلاد سياسياً وتشريعياً وتنفيذياً، لتبدأ ليبيا في مرحلة جديدة من إعادة البناء والتطوير، الذي لم تشهده منذ رحيل القذافي، فلم تبن بها مدرسة أو مستشفى، وتستغل جميع عوائد البترول للإنفاق على الجماعات المرتزقة، التي تؤمن كل فريق من الفرق المتنازعة.
ولكن تبرز المشكلة الرئيسية في تواجد القوات التركية الموجودة في ليبيا، والتي تشكل العقبة الرئيسية مع مصر، الرافضة لوجود قوات أجنبية على أراض مجاورة لها، وهو حق دولي مشروع، خاصة بعدما قامت حكومة طرابلس، برسم حدود بحرية مع تركيا، بما يتنافى مع كافة القوانين الدولية المنظمة لعمليات ترسيم الحدود البحرية! لذلك قامت مصر، على الفور، بترسيم حدودها مع إيطاليا واليونان، من خلال القنوات الشرعية، بما أفشل ترسيم الحدود البحرية، بين ليبيا وتركيا، مما زاد من عمق المشاكل بين الطرفين، إذ أن التقارب المصري التركي مرهون بحل مشكلة التواجد العسكري في ليبيا، في حين تسعى تركيا، في الحصول على حصة كبيرة من عمليات إعادة الإعمار في ليبيا، فور استقرار الأمور بها، والبدء في عملية التنمية.
وتستمر مصر، والدول الأوروبية، في مساعيهم لوضع الأطر والقواعد المنظمة لإجراء انتخابات رئاسية في ليبيا، والتنسيق لتحديد شروط الأحقية في الترشح لها، في ظل وجود حكومة محايدة، لإدارة العملية الانتخابية، وهو ما يرفضه دبيبه، المنتهية ولايته، والمُصر على البقاء في رئاسة الحكومة، طمعاً في الوصول لكرسي الرئاسة. وفي تلك الأثناء ظهر في المشهد، سيف الإسلام القذافي، نجل الرئيس الراحل، الذي يسعى للترشح للرئاسة، رغم أنه مطلوب في محكمة العدل الدولية، ويواجه رفض الولايات المتحدة الأمريكية لترشحه لذلك المنصب.
وهكذا تسير ليبيا، الآن، في نفق مظلم، لا يعلم مداه أو مآله أحد، ولكننا نأمل أن يُغلّب أطراف النزاع فيها، المصلحة العليا لوطنهم، بالتوافق على إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، لضمان عودة الاستقرار إلى ليبيا وشعبه الشقيق.
Email: [email protected]