في فترة من الفترات تعالت بعض الأصوات، في مصر، منتقدة الإنفاق العسكري الموجه لتعزيز ورفع كفاءة القوات المسلحة المصرية، ومنادية بتوجيه تلك الموارد والمخصصات للاستثمار في رفع مستوى التعليم والصحة، مستشهدين في ذلك، بمقولة مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا، وصانع نهضتها الحديثة، “بأن سر نجاح أي دولة، هو نجاحها في التنمية البشرية”، قاصداً بذلك طرفي التنمية البشرية، التعليم والصحة. والحقيقة أن اتفاقنا، جميعاً، مع فكر مهاتير محمد، لا يتعارض، إطلاقاً، مع أهمية تسليح الدول، والحفاظ على قوتها العسكرية.
وكأن القدر أراد أن يثبت، لأصحاب تلك الأصوات، أن وضوح الرؤية، وحكمة الفكر الاستراتيجي، أحد أهم مميزات الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ فشهدنا تدهور الأوضاع في اليمن، التي ازداد الموقف بها سوءاً، وتعقيداً، بعد سيطرة الحوثيون، وبالتالي إيران، على المشهد هناك، وهو ما يعني تهديد أمن منطقة باب المندب، الذي يسيطر على ثلث حجم التجارة العالمية، بما فيها النفط. وتابعنا تصاعد الأحداث مع إثيوبيا، التي تتحكم في نسبة 85% من تدفقات مياه نهر النيل إلى مصر. فضلاً عما تشهده ليبيا والسودان من عدم استقرار وانقسام داخلي، جعلهما مرتعاً للتدخلات الأجنبية، كل يبحث عن مصالحه، غير آبه بسيادة تلك الدول الشقيقة على أراضيها.
ولم يفت على القاصي والداني، ما تشهده مصر من تحرشات منذ بدء الاكتشافات البترولية في شمالها؛ فها هي تركيا تعلن عدم الاعتراف باتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان، إضافة إلى تحرشها بقبرص، باعتراض عمل حفارات التنقيب عن البترول، في منطقة قبرص اليونانية، اعتماداً على سيطرتها على قبرص التركية، ومدعية أحقيتها في التنقيب في كامل منطقة قبرص. فضلاً عن الاستفزازات في الجانب الشمالي الشرقي، الذي تحاول إسرائيل فيه منع الحكومة اللبنانية من التنقيب عن البترول في “البلوك 9″، مدعية سيادتها عليه، بالرغم من وقوعه في المياه اللبنانية.
وتحول حوض البحر المتوسط، وكافة حدود مصر، إلى مناطق ملتهبة؛ فتلك الدولة تتقدم بشكوى للأمم المتحدة ضد جارتها، وتلك الدولة تستعين بالمدمرات الإيطالية لتأمين حفارات الغاز في مياهها الإقليمية، ولم يكن هناك بداً من تعزيز قواتنا المسلحة، وبالأخص القوات البحرية، من حيث الكفاءة والقدرة القتالية، لتأمين الاستثمارات المصرية في شمال شرق المتوسط، وتأمين منطقة باب المندب، والبحر الأحمر، لضمان سلامة الملاحة في قناة السويس، التي تُشكل إيراداتها ثلث الناتج المحلي الإجمالي، وتأمين جميع حدود مصر، أمام المتربصين بها.
ولذا شاهدنا سيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي، من فترة لأخرى، يجري تفتيش الحرب لأحد تشكيلات القوات المسلحة، في رسالة واضحة، لمن يعي ولمن يهمه الأمر، أن مصر لديها قوات مسلحة، قوية، تعتبر سلاح الردع، لمن قد تسول له نفسه مجرد التفكير في أي عمل عدائي ضد أمنها القومي، واستثماراتها، ومقدرات شعبها، وتتمثل قوة الردع المصري في حجم الأسلحة والمعدات المتطورة، التي تردع أي طرف من التفكير في المساس بأهدافها الاستراتيجية، وهو ما يُعرف في العلوم العسكرية باسم “الردع السلبي”، أي أن الطرف المعادي يرى قوتك، ويقدر حجمها، ويحسب حساباته، فيقرر عدم التعرض لك أو لاستثماراتك. أما “الردع الإيجابي”، فهو ما شهدناه من قواتنا المسلحة، عندما قامت عناصر إرهابية في ليبيا بإعدام 20 مصري، إذ تحركت، على الفور، قوات الصاعقة والقوات الجوية المصرية، ودمرت تلك العناصر الإرهابية، ومنذئذ لم يخدش مصري واحد في ليبيا، فكان استخدم القوة العسكرية لمنع تكرار أي عمل عدائي ضد مصر.
وبفضل من الله، ثم حكمة القرار الاستراتيجي، تمكنت مصر من تحقيق الردع السلبي والإيجابي، لمن يظن نفسه قادر على النيل من أمنها وسلامة شعبها، من خلال أي مغامرة عسكرية ضدها، بمعنى آخر، فإن الردع يحقق لمصر وشعبها الحفاظ على ثرواتهم، ويمنع نشوب حروب نحن في غنى عنها، وبمعنى آخر، فإن القوة العسكرية تحقق السلام، إذا من أحسن استخدامها، وهو ما أثبتته مصر، وأقر به أبنائها، وهم يتابعون على مدار شهرين كاملين، ما يتعرض له أبناء الشعب الفلسطيني، الأعزل، من عدوان إسرائيل الغاشم عليهم.
والآن دعوني أسأل من تشكك، آنذاك، في قرار زيادة القوة العسكرية المصرية، ماذا لو لم ترفع مصر قدراتها العسكرية، بتلك الأسلحة والمعدات المتطورة لتأمين حدودنا، واستثماراتنا؟ والإجابة، ببساطة، ومن واقع التجارب المحيطة، لكنا، الآن، نجوب أروقة الأمم المتحدة، حاملين شكوانا لمجلس الأمن، أو كنا نطلب المدمرات من الدول الصديقة، لحماية استثماراتنا، أو لاكتفينا بالسكوت، مثلما سكتت اليابان، على استيلاء روسيا على بعض الجذر في شمال اليابان، ومازالت تتحكم فيها حتى يومنا هذا، بسبب ضعف اليابان عسكرياً، آنذاك، وهو الوضع الذي دفعها لزيادة قوتها العسكرية، لتصبح اليابان، اليوم، سادس القوى العسكرية على مستوى العالم.
ولعل ما يدور حولنا اليوم من أحداث جسام، جعل كل مواطن في مصرنا الغالية مقتنع، تماماً، بأن بناء القوة العسكرية المصرية أمر حتمي للأمن القومي المصري، وأداة رادع لمن تسول له نفسه تهديد أمن مصر القومي واستثماراتها، خاصة وأن هذه المرة الأولى التي تشهد فيها الاتجاهات الاستراتيجية الأربعة لمصر تهديداً، سواء الاتجاه الشرقي مع إسرائيل، والغربي مع ليبيا، والجنوبي مع السودان واليمن وحوض البحر الأحمر، وأخيراً في الشمال، في البحر المتوسط.