كانت سماء لندن ملبدة بالغيوم، والأمطار تهطل بشدة، بينما أنا خارج من محطة مترو الأنفاق المقابلة لساحة مبنى BBC، ففتحت مظلتي وتقدمت تجاه بوابة المبنى، لأجد جموعاً محتشدة، عرفت أنهم من يهود بريطانيا، تعلو صيحاتهم “إسحق هذا المصري”. ولما وصل موكب الجنرال شارون، خرج من إحدى السيارات، تكسو وجهه ابتسامة عريضة، وحيا الجمع المحتشد في انتظاره، قبل أن يدخل للمبنى. فوقفت أتابع بين الصفوف، ليس معي إلا مظلتي أحملها في يدٍ، وفي اليد الأخرى أحمل حُلتي المدنية التي سأرتديها أثناء ذلك اللقاء!
بدأت قصة ذلك اللقاء فور وصولي إلى إنجلترا، في عام 1975، لدراسة دورة أركان حرب في كلية كمبرلي الملكية بإنجلترا؛ أقدم وأعرق الكليات العسكرية على مستوى العالم، كأول دارس مصري بها، بعد عقود من توقف مصر عن إرسال البعثات لتلك الكلية، وتحديداً في أعقاب ثورة يوليو 1952. فبعد وصولي بأسبوع، فوجئت بصورتي تتصدر الصفحة الأولى من جريدة ساندي تايمز، أهم الصحف الإنجليزية التي تصدر يوم الأحد من كل أسبوع، ومعها مقال بعنوان “كيف تستقبل إنجلترا ضابط مصري للتعلم فيها … ليقاتل الإسرائيليين بعد ذلك؟!”.
بعدها بأيام طلبني مدير الكلية، الجنرال بيج، إلى مكتبه، فوجدت معه الإعلامي البريطاني المشهور، إدجار آلان، الذي كان يقدم أشهر برامج توك شو، في أوروبا، في هذا التوقيت، باسم “بانوراما”. وبعد أن حييت مدير الكلية العسكرية وضيفه، عرض عليّ إدجار آلان استضافتي في برنامجه، في حلقة تخصص عن حرب أكتوبر 73، مستطرد أنه استضاف من قبل العديد من الخبراء الإسرائيليون والبريطانيون، للحديث عن الحرب، إلا أنه لم يستضف ضابطاً مصرياً من قبل، لعرض وجهة النظر المصرية، عن الحرب، للمشاهد الأوروبي والبريطاني.
فأبلغت السيد آلان بأن مشاركتي مرهونة بموافقة قياداتي في القوات المسلحة المصرية، وفي حال حصلت على تلك الموافقة، يبقى لي شرطان؛ أولهما الاطلاع على الأسئلة قبل اللقاء، وثانيهما احتفاظي بحق رفض أي من تلك الأسئلة. ووافق إدجار آلان على شروطي، وبعدها بأسبوع، عندما حصلت على موافقة القيادة المصرية، أرسل لي فريق الإعداد قائمة الأسئلة التي ستطرح عليّ، والتي رأيت ضرورة إعداد إجاباتها بالتنسيق مع القيادة في مصر.
وهنا أمر وزير الحربية، آنذاك، الفريق الجمسي، بعودتي إلى القاهرة، في مأمورية لإعداد الإجابات اللازمة، بالتنسيق مع هيئة العمليات والمخابرات الحربية. وبعدما إتمام المهمة والعودة إلى لندن، فاجأني إدجار آلان باقتراح استضافة الجنرال شارون، لإتاحة الفرصة لعرض الرأي والرأي الآخر، وبعد مشاورات، وافقت شريطة ألا يدور بيني وبينه حواراً مباشراً.
وبعدها بأيام قليلة، عاد باقتراح أن تكون الحلقة على شكل مناظرة، ليكون الحوار الأكثر تشويقاً، على أن يتم تشكيا هيئة التحكيم من أساتذة وخبراء معهد الدراسات الاستراتيجية في لندن، (IISS)، باعتباره أكبر معهد استراتيجي في العالم. ولا أنكر توتري وقلقي، حينئذ، وأنا برتبة رائد، لم يتجاوز عمره الرابعة والعشرون، إلا أنني كنت مدركاً أن رفضي قد يُفسر بالخوف، والتشكيك في سلامة ونجاح الخطة المصرية، لذا وافقت، بحماس الشباب، ويقيني بأن العسكرية المصرية قد حققت أكبر إنجاز عسكري في العصر الحديث.
وفي اليوم المحدد للمناظرة، هاتفني في الصباح الباكر، الفريق سعد الشاذلي، سفير مصر لدى بريطانيا، آنذاك، متمنياً لي التوفيق والسداد، وكانت العلاقات بينه وبين القاهرة قد بدأت تتوتر، وبعده هاتفني الملحق العسكري المصري، ليخبرني بأن وعكة صحية ستحول بينه وبين مصاحبتي، ففهمت أنه غير واثق من نتائج المناظرة. فتوجهت بمفردي لمبنى إذاعة BBC، ليس معي إلا رب العزة، وإيماني بأنه لن يتخل عني، ويقيني بأن دعوات أمي، رحمة الله عليها، بالتوفيق ستستجاب.
ولما وصلت للمبنى استوقفني الحرس، غير مصدقين أنني الضابط المصري، وأنني حضرت بمفردي، ورغم أنني قدمت لهم بطاقة كلية كمبرلي، إلا أنهم أصروا على حضور إدجار آلان، من غرفته، للتأكد من هويتي، وأنني الضابط المصري، الرائد سمير فرج. ولما نزل إدجار آلان، قال لي، متأثراً، “لو كنت أبلغتني بأنك ستأتي منفرداً، لأرسلت سيارة خاصة لإحضارك، بدلاً من استخدام مترو الأنفاق”. ثم صحبني إلى الصالون، فوجدت به الجنرال شارون، الذي حضر بصحبة ما يزيد عن 15 فرد، على رأسهم السفير الإسرائيلي لدى لندن.
فدخلت إلى الصالون، وكان من بين الموجودين، الجنرال بيج، مدير كلية كمبرلي، الذي توجه نحوي للترحيب بي، ثم اتجهت للجلوس معه في الطرف المقابل للجنرال شارون، وبعدها بمدة وجيزة، توجهت لغرفة ملحقة، لتبديل ملابسي، وارتداء البدلة المدنية التي سأظهر بها في البرنامج، استعداداً للبدء. ولما حانت لحظة دخول الأستوديو، جلس إدجار آلان في المنتصف، وعن يمينه الجنرال شارون، وأنا عن يساره، في مواجهة المنصة الجالس عليها السادة المُحكمين من أساتذة وخبراء معهد الدراسات الاستراتيجية، وقد استعد كل منهم بأوراقه وأقلامه، لتدوين ملاحظاتهم على إجابات طرفي المناظرة، لإصدار حكمهم.
وما أن اتخذت مكاني، حتى ذكرت الله رب العالمين، وقرأت الفاتحة، وآية الكرسي، كما علمتني أمي، عند مواجهة مواقف خاصة، وتذكرت دعواتها، فازدادت ثقتي بنفسي، داعياً المولى أن يوفقني، بحق دم الشهداء الذي سال على أرض سيناء، وبحق شجاعة رجال القوات المسلحة المصرية في حرب 73. وانطلقت موسيقى مقدمة البرنامج، إيذاناً ببدأة على الهواء مباشرة.
وفي الأسبوع القادم سأسرد على حضراتكم وقائع تلك المناظرة.