يحتفل شعب مصر العظيم، وجيشها الباسل، بذكرى أغلى انتصاراتنا العسكرية، وهي حرب أكتوبر 73، التي أكاد ألا أصدق أنه يمر عليها، اليوم، 50 عاماً. وقبل أن أدخل في أحداث تلك الحرب المجيدة، أتذكر أنه بعدها، مباشرة، تم ابتعاثي لكلية كمبرلي الملكية لأركان حرب، في إنجلترا، بعد حصولي على المركز الأول، بتقدير امتياز، في كلية أركان حرب المصرية، وخلال عام ونصف قضيتها بتلك الكلية العريقة، لم تكد محاضرة تخلو من طلب الأساتذة الإنجليز، من الرائد المصري سمير فرج، أن يتحدث عن كيفية تطبيق الجيش المصري لعمليات حرب أكتوبر 73، التي اطلع عليها العالم، وهو ما كان، ولا يزال، مصدر فخر وعزة لي ولغيري.
واستشهد، كذلك، بما أصدره “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية”، في لندن، أو “International Institute for Strategic Studies” (IISS)، عن حرب أكتوبر 1973، في تقريره السنوي المعروف باسم “التوازن العسكري”، أو “The Military Balance”، الذي يعد أحد أهم الإصدارات العسكرية العالمية، إن لم يكن أهمها، على الإطلاق، ويعتمد عليه جميع المفكرين الاستراتيجيين، والمحللين العسكريين، حول العالم. حيث صدر تقرير عام 1973، في يناير، أي قبل الحرب، وقد عقد مقارنة بين القوات الإسرائيلية، والقوات المصرية والسورية والأردنية والعراقية، مجتمعة، معلقاً بأنه مجرد تفكير العرب في القيام بأي عمليات عسكرية ضد إسرائيل، لاستعادة الأرض التي فقدها عام 67، فمصيرهم الحتمي هو الهزيمة، نظراً للتفوق الكمي والنوعي للقوات الإسرائيلية، مقارنة بحجم القوات العربية. وكان ذلك خلاصة ما قدمه التقرير في نهاية الفصل المخصص لتحليل القوات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط.
ومرت الأيام، وهل شهر أكتوبر 73، فعبرت القوات المصرية قناة السويس، ودمرت خط بارليف، أقوى الخطوط الدفاعية عبر التاريخ العسكري، بعد “خط ماجينو” الذي بناه الفرنسيون أمام الجيش الألماني، ووصلت قواتنا لعمق 15 كيلو متر شرق قناة السويس، وهزموا العدو الإسرائيلي، واستعادوا الأرض، فيما بدا للعالم وكأنه معجزة عسكرية. ولما حان موعد إصدار العدد الجديد، في بداية عام 74، وجد مركز الدراسات الاستراتيجية نفسه في حرج دولي أمام خطأ في تقديراته المذكورة في تقريره السنوي لعام 73، مما دفعه لتأجيل الإصدار الجديد، عن عام 74، لمدة 4 أشهر، لمراجعة أوجه القصور في تحليله السابق، التي أدت لخطأ النتائج.
وصدر التقرير الجديد في الربع الثاني من عام 74، ليشهد بأن المصريين غيروا المفاهيم العسكرية، وأهمها تلك المرتبطة بمقارنة القوات، فبعدما كان أساس حساب التفوق العسكري للدولة، يقوم على أعداد أفراد قواتها، وأعداد وأنواع أسلحتها ومعداتها، من الدبابات والمدافع والطائرات، وغيرهم، لم يعد من الممكن اعتماد ذات المنهجية، بعد تفوق القوات المصرية في حرب 73، والتي فرضوا بها عناصر جديدة لتقييم القوى العسكرية، كان من الضرورة اعتمادها كعناصر حاكمة في تحديد موازين القوى؛ أولها الروح المعنوية، إذ كانت الروح المعنوية للمصريين تفوق الروح المعنوية للإسرائيليين، بعد انتظار دام ست سنوات منذ يونيو 67.
كما أظهرت هذه الحرب عاملاً جديداً، وهو الرغبة في القتال، فقد كان هدف المصريين هو استعادة الأرض التي فقدوها في 67، بينما هدف الإسرائيليين الاحتفاظ بأرض اكتسبوها في الحرب السابقة، ويعلمون أنها ليست أرضهم. وأوضحت الحرب، كذلك، أن المصريين لم يهتموا بالتفوق العددي لأسلحة قوات العدو الإسرائيلي، بل كان ذلك حافزاً لابتكار أساليب جديدة للتصدي لها، مثل المدافع المائية للتغلب على الساتر الترابي لخط بارليف، وحائط الصواريخ للتغلب على قوة سلاح الجو الإسرائيلي، بتحييد قدرتها، وهو ما حدث مع بداية عبور القوات المصرية لقناة السويس، فتغير، بهذا، مفاهيم الدفاع الجوي في الفكر العسكري العالمي، إذ لم يعد التفوق العددي للطائرات، عاملاً أساسياً في حساب القوى، بعد نجاح قواتنا في تحييد القوات الجوية المعادية بفكرة حائط الصواريخ.
وفي مفاجأة غير متوقعة للإسرائيليين، تمكنت قواتنا المصرية من تسجيل نجاح آخر باسمها، بعد الهجوم على طول مواجهة دفاعات خط بارليف الإسرائيلية، التي كانت يتبع أسلوب “الدفاع المتحرك”، أو “Mobile Defense”، والذي يعتمد على الحد من الهجوم إلا من اتجاه واحد، وهو ما كان من شأنه تمكين الاحتياطي الإسرائيلي من تدمير قواتنا التي نجحت في الاختراق، إلا أن اختراق القوات المصرية للدفاعات الإسرائيلية تم على المواجهة بالكامل، مما أربك حسابات القوات الإسرائيلية، ووضعها في مأزق لعدم القدرة على تحديد اتجاه دفع الاحتياطي. فاتضح للجميع أن نظام الدفاع المتحرك، الذي تتبناه العقيدة العسكرية الغربية، المعمول بها بكل دول حلف شمال الأطلنطي، أو حلف الناتو، لم يعد صالحاً بعد هجوم المصريين ونجاحهم في تدمير الدفاعات الإسرائيلية في حرب 73، فبدأت وزارة الدفاع الأمريكية في تعديل فكر الدفاع المتحرك في العقيدة الغربية، لتخرج للعالم، بعد ذلك بالشكل المتطور للدفاع المتحرك، أطلقت عليه اسم “Active Defense”، أي “الدفاع النشط”، وهو الأسلوب المطور للدفاع المتحرك، الذي تتبعه، حالياً، كل القوات في حلف شمال الأطلنطي، والذي يقسم الاحتياطيات في العمق إلى عدة احتياطيات لمواجهة الاختراقات المتعددة على طول المواجهة.
كانت تلك لمحة بسيطة مما قدمته القوات المسلحة المصرية للفكر العسكري العالمي من دروس وعبر من خلال بطولاتها في حرب أكتوبر 73، والتي اعتبرها العالم معجزة في التاريخ العسكري الحديث.