بعد مضى ثلاث سنوات من تقليص عدد الحجاج على خلفية تفشي جائحة كورونا ، سمحت السعودية هذا العام لملايين المسلمين بأداء فريضة الحج ،وقامت بتسخير كل إمكانياتها المادية والبشرية لاستقبالهم بمنتهى النظام والدقة،
ولقد كنت بفضل الله الواسع وكرمه واحدة من هؤلاء الذين اكتسوا كل شبر من أرض الحرم، وأجابوا دعوة ربهم بالتلبية: “لبيك اللهم لبيك”.
ولقد شاهدت ولمست ذلك بنفسي حينما كنت أتجول داخل وخارج الحرم على مدار 24 ساعة، ولا أجد من قوات الأمن المنتشرة هناك إلا كل مودة وترحيب وعون تجاه كل الحجاج، حتى أنى أذكر ذات مرة كيف إلتبس علي ذهنى أمر فقهى ما ، فذهبت لأقرب ضابط وسألته، فأدهشنى بحلمه وكرم أخلاقه، وقام على الفور باستخدام تليفونه الخاص وتواصل مع مركز الفتوى ليأتينى بإجابة دقيقة أثلجت صدرى وبها استكملت عبادتى برضا واستمتاع.
فمن تكريم الله عز وجل لهذا البلد الأمين أن يسخر لها جنوداً من خيرة عباد الله على أطهر بقاع الأرض.
وفي تلك الأيام المباركة تلقيت الكثير من الرسائل الربانية، اسمحوا لى أن أشارككم بعضها في ثلاث قصص موجزة، لعلها تلقي أثرها الوجدانى عند كل قارىء يتمنى قلبه سجدة قريبة على أرض مكة.
• في صباح يوم مشرق، جالستنى على مائدة الإفطار إحدى أخوات البعثة تدعى الحاجة “نعمات”، وكانت شديدة الجاذبية بابتسامتها المضيئة لوجهها، وتتحلى بروح دعابة تأبى أن تفارقها رغم قسوة وشدة مرضها الحرج ،
وظلت على مدار ساعتين تحكى لى عن محبة الله تعالى وإداقه عليها بحنانه وكرمه، واستجابته الفورية لدعائها برغبتها في أداء فريضة الحج قبل أن تخضع لإجراء ثانى عملية جراحية خطيرة لها فى المخ خلال عام واحد فقط، وكيف أن برها وإحسانها لكل من يقصد بابها عاد إليها بحب أهل السماء والأرض، ممتنة بالجميل والعرفان لكل من ساندها في محنتها ولو بالدعاء.
أختى المعلمة الرقيقة الحاجة “نعمات” وسط دموعى وابتساماتى ذكرتنى أن الرضا بقضاء الله وقدره هو باب الله الأعظم،وهو أجمل اختياراتنا في هذه الحياة.. رجاءا لا تنسوها من صالح الدعاء، “هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ”.
• فى مساء يوم التروية،ذهبنا مترجلين لزيارة جبل الرحمة،ولم يفارقنا الحمد والتهليل والتكبير عبر مكبرات الصوت التى أيقظت سكون الطريق تطهيراً للنفس وشفاءاً للروح، وفي منتصف الطريق تقريباً وأثناء سير الحجيج بحماس ملحوظ، فقدت أختنا الحاجة “فاطمة” أحد نعليها ،ولم تتوقف لأجله، بل استكملت المسيرة متحملة معاناة قدمها الشديدة من قسوة وسخونة الأسفلت، وحينما وصلنا إلى أسفل جبل الرحمة، واتخذنا وجهة القبلة للدعاء، تنزلت أحدى الرحمات الإلهية علينا، فقد سمع أحد شباب ضباط الحجيج بأمرها،وبدون تردد بادر بخلع نعليه ووضعه برقي أمام قدميها المتألمة، متبسطاً في رحمة عظيم فعله، قائلاً: “الحاجة زى أمى”، وبمنتهى الصبر والرضا عاد معنا سيراً حافي القدمين إلى مخيمات عرفات مسافة لاتقل عن 1500 متر!
أخى الحاج المهذب حضرة الضابط الصغير ذكرنى أن “الراحمون يرحمهم الله” ، وأن البر والإحسان واجب انسانى مع الجميع.. حفظه الله ورعاه ورزقه مقاماً في عليين.
• حينما وطأت قدماى حرم المسجد النبوى الشريف،لأداء صلاة المغرب ،وبينما أنا جالسة أناجى ربي في حضرة سيدنا النبي ﷺ ،اقتربت منى الأخت “وجدان” معلمة لغة عربية في السودان الشقيقة، وأخذت تحدثنى عن انخداع البشر بمتاع الدنيا وقصرت أحلامهم على السيادة وامتلاك الأراضي والمنازل الفاخرة بينما الدنيا دار فناء!!..
وكيف هداها الله منذ سنوات لتغرس في أبنائها ثقافة الاستغناء، فباتت تدخر الكثير من راتبها لتأتى كل عام لأداء العمرة، وبالفعل قضت 10 أيام عمرة رمضان ،
لكن شاء الله عز وجل أن تتأزم الأحداث السياسية فى وطنها فتبقيها بالمدينة فى آمان وحضرة سيدنا النبي ﷺ ، وقبل أن تتركنى لزيارة الروضة الشريفة ، أشادت بكرم أهل المدينة وترحابهم الشديد بها وبرفيقاتها، وكيف أن أحد أهلها وفر لهم السكن والمأوى والطعام مجاناً طوال تلك المدة.
أختى المؤمنة الحاجة “وجدان” ذكرتنى بقوله تعالي : (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا ) ، وأنه لا حرج على فضل الله، فأهل المدينة كما استقبلوا سيدنا النبي ﷺ ،وفتحوا له قلوبهم وبيوتهم،سيظلوا سلسال عطاء وجود وكرم مع ضيوفه مهما طال بهم الزمن ..كل أمنيات الخير والمحبة لكل الشعوب ،ودعاؤنا الى الله أن ينزل السكينة والطمأنينة على بيوت كل المسلمين.
15 يوم من عمرى ،هى الذكرى الأسعد في حياتى، فشكراً وعرفاناً من القلب لكل من خطط ونفذ وأشرف على اتمام تلك الرحلة الروحانية العظيمة ، لكل من صدق الوعد واحترم الكلمة وبذل قصارى جهده لتوفير سبل الراحة والآمان لنا مهما بلغت صعوبة الأحداث فى بعض الأحيان، لكل من حرص على حسن الاستقبال وتقديم أرفع الخدمات وأرق الهدايا والكثير من التسهيلات، لكل من أدار المنظومة الزمنية بانضباط وذكاء منقطع النظير ليعيننا على أداء الطاعات، لكل من منحنا شرف التعاون وخدمة بعضنا البعض بتواضع وحب واخلاص، لكل من نثر بذور الاحترام والمودة بيننا وحافظ على وصالنا بخلق وأدب جم حتى نلتقي بالأبدية.
لكل قادة ومسؤولي ومشرفي وموظفي إدارة الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة المصرية ، وعدتم ووفيتم بكفاءة وإبهار، فجزيل الشكر وصادق العرفان مرة أخرى،لعلكم خير مثال وقدوة يحتذى بها كل من كان له نصيباً في تنظيم رحلات الحج السياحى الأعوام القادمة..حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً بإذن الله لكل حجاج بيت الله الحرام إلى يوم الدين.