تتبنى كافة دول العالم استراتيجيات محددة؛ سواء كانت دفاعية أو هجومية، وتعتمد على هذا التصنيف لبناء قواها العسكرية، والاقتصادية، والسياسية، وغيرهم. فعلى سبيل المثال تنتهج مصر استراتيجية دفاعية، تستهدف بها الدفاع عن حدودها، واستثماراتها، وأمنها الداخلي، والدفاع عن عقائدها، وتراثها، ودستورها، واستقلالها، وحرية مواطنيها. أما الولايات المتحدة الأمريكية، فتختلف عن، معظم، باقي دول العالم، حيث تتبنى استراتيجية هجومية، تستهدف من خلالها أن تكون أقوى دولة في العالم، اقتصادياً، وعسكرياً، وسياسياً، وثقافياً واجتماعياً، وهو ما يتحقق لها من خلال عدة اتجاهات، من بينها أن تمتلك أقوى جيش في العالم.
وعلى الصعيد الاقتصادي، تعمل الولايات المتحدة الأمريكية على تعزيز اقتصادها، من خلال الدخول في تحالفات اقتصادية، للهيمنة على الأسواق التجارية، والتحكم في باقي القوى الاقتصادية، في مختلف بقاع العالم، بالسيطرة على الشركات العالمية، عن طريق المشاركة الأمريكية في هذه الشركات، ولعل أبسط الأمثلة على ذلك، سيطرتها على صناعة الطائرات التجارية عالمياً، من خلال شركتها الوطنية “بوينج”، ومن خلال شراكتها مع شركة “إيرباص” الفرنسية، بحصة كبيرة من الإنتاج، وبذلك صارت الولايات المتحدة الأمريكية تتحكم في منافسيها العسكريين، والاقتصاديين.
ففي الماضي، كان الاتحاد السوفيتي، هو المنافس، أو العدو، التقليدي للولايات المتحدة، إلا أن تفتتت الاتحاد، لم يبق إلا روسيا كعدو تقليدي، على مر العقود، حتى وصول ترامب إلى البيت الأبيض، الذي انتبه لدخول عدو جديد إلى الساحة العالمية، أكثر شراسة، يتقدم الصفوف، بهدوء، وثقة، وقوة، وثبات، وهو المارد الصيني … تلك الدولة التي يتجاوز تعدادها مليار و300 مليون مواطن، والتي نجحت أن تحويل زيادتها السكانية لمصدر قوة، بدلاً من أن يصبح عبأً على الدولة.
فقد نجحت الصين في تقوية جيشها، ليحتل، اليوم، المركز الثالث، عالمياً، بعد الولايات المتحدة وروسيا، وبفوارق بسيطة للغاية، وكذلك الأمر في المجال الاقتصادي، فحدث ولا حرج، إذ قفزت الصين لتحتل المركز الثاني في إجمالي الناتج المحلي، بعد أمريكا، منتزعة اللقب ممن اعتادوا عليه من الدول الأوروبية والآسيوية المتقدمة، مثل بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، واليابان، فأصبحت بذلك المنافس الحقيقي للاقتصاد الأمريكي، بعدما انتهجت الإنتاج الصناعي طريقاً لتلبية كافة مطالب، واحتياجات، مختلف دول العالم، ونجحت في غزو الأسواق العالمية بمنتجاتها، بمختلف مستوياتها، وأسست شبكة تجارية كبيرة، في كل هذه الدول، اعتماداً على تنوع منتجاتها.
ثم وجهت الصين ضربة اقتصادية جديدة، بإعادة فتح طريق الحرير، بعد تطوير الطريق البري القديم، الذي يصل إلى أوروبا، من خلال خط سكة حديد، لتصبح الصين، من بعده، مركزاً إقليمياً لتجميع كل منتجات دول جنوب شرق آسيا، ونقلها إلى أوروبا، من خلال هذا الطريق، فيما لا يزيد عن سبعة أيام، بدلاً من ستة أسابيع، عبر البحار، وقناة السويس. ولعل الدول الأفريقية كانت الأكثر استفادة من التمويلات الصينية، المشروطة باستخدام التكنولوجيا الصينية، لنمو استثماراتها، ولعل أقرب الأمثلة، على ذلك، أن سد النهضة الأثيوبي، يتم تمويله بقروض، معظمها، صينية.
وبتدقيق النظر وجدت الولايات المتحدة، أثناء فترة حكم الرئيس السابق، دونالد ترامب، أن منافسها الحقيقي، هو الصين، التي تحتل مراكزاً متقدمة على كافة الأصعدة؛ اقتصادياً، وعسكرياً، وبشرياً، وبإعادة النظر للميزان التجاري بين البلدين، تبين أن الصين تصدر للولايات المتحدة ثلاث أضعاف ما تصدره الولايات المتحدة للصين، فشن الرئيس الأمريكي، حينها، ترامب، في مارس 2018، حرباً اقتصادية ضد الصين، بإعلان نيته لفرض رسوماً جمركية، تبلغ 50 مليار دولار أمريكي، على السلع الصينية، بموجب المادة (301) من قانون التجارة الأمريكي.
وكرد فعل، مساو للفعل في قوته، فرضت الحكومة الصينية رسوماً جمركية على أكثر من 128 منتج أمريكي، أشهرها فول الصويا. واشتعلت حرب التعريفات بين الدولتين، حتى بزوغ نجم “هواوي”، لتصبح واحدة من أكبر شركات تصنيع الهواتف المحمولة في العالم، وأبرز مطوري تجهيزات الجيل الخامس، لتنافس شركة نوكيا الفنلندية، وإريسكون السويسرية، وتحت ستار اتهام شركة “هواوي” بالتجسس، أعلن الرئيس ترامب إضافتها إلى قائمة الشركات، المحظور على الحكومة الأمريكية التعامل معها، كونها تشكل خطراً على الأمن القومي الأمريكي.
إلا أنه تأكيداً على أن الاقتصاد يعد المحرك الأساسي لموازين القوى في العالم، قامت وزيرة الخزانة الأمريكية، جانيت يلين، في الأسبوع الماضي، بزيارة إلى الصين، لمدة أربعة أيام، بعد أسابيع قليلة من زيارة وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، للعاصمة الصينية، وهو ما يؤيد سعي الإدارة الأمريكية الحالية، برئاسة جو بايدن، إلى تحسين العلاقات الفاترة بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم، رغم ما يشوبها من توتر سياسي، على خلفية الدعم الأمريكي لتايوان ضد الصين.
وخلال قمة العشرين، التي عقدت في أوساكا اليابانية، في أواخر الشهر الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي خلال مؤتمره الصحفي، أن واشنطن لن تفرض رسوماً جديدة على الصين، ولكنها لن تتراجع عن سابق قراراتها، كما أضاف، عقب لقاءه مع الرئيس الصيني، أن الدولتان ستستمران في التفاوض لأجل التوصل لاتفاق أشمل بشأن التجارة بينهما، وأكد، في مفاجأة، أنه سيسمح للشركات الأمريكية ببيع منتجاتها لشركة هواوي الصينية، وهو ما لاقى ترحيباً في الصين.
ولعل تلك التحولات الواضحة في التوجهات الأمريكية، تكون بادرة أمل نحو تحقيق توافق بين البلدين، بدلاً عن الحرب التجارية التي انعكست آثارها سلباً على النظام العالمي بأكمله.