منذ أول يوم ذهبت فيه لاستلام عملي كوكيل لكلية السياحة والفنادق (فرع الفيوم) لشئون التعليم والطلاب قابلني الصول عبد المعز علي بوابة الكلية و رحب بي ترحيبا شديدا و قام بتعريفي بنفسه كأحد رجال الحرس الجامعي للكلية .
الصول عبد المعز من الشخصيات التي تمر بحياتك ولا تستطيع أن تنساها …شخصية مصرية بملامحها الأصلية الأصيلة و الشارب الكبير الذي يغطي مساحة كبيرة من وجهه و الابتسامة العريضة التي لا تفارقه وعلامة السجود التي تظهر في جبهته و الإحساس العام بالرضاء و السعادة الذي لا يفارقه أبدا علي الرغم من حالته المالية المتدنية لكبر حجم عائلته مع عدم تناسب الدخل مع المصاريف كعادة أهل الريف …كان الله قد من عليه بولد أسمه محمد و 5 بنات و كان محمد هو أهم شخصية في حياة زوجته و مصدر سعادته و اهتمامه.
كان عبد المعز يستقبلني استقبالا خاصا في كل يوم أذهب للكلية فيه يستقبلني بابتسامة عريضة كلها حب و احترام وتقدير ولاحظت بحكم عملي مع الطلاب أن الصول عبد المعز يتعامل معهم بأسلوب فريد بمودة و رحمة كالعلاقة التي بين الأب و أبنائه فزاد حبي و احترامي لرجل الشرطة الذي أدرك مهام عمله بكفاءة نادرة فأحبة الجميع بالكلية من طلاب و عاملين و أعضاء هيئة التدريس.
في أحد الأيام استقبلني علي بوابة الكلية وكان سعيدا جدا بعد إعلان نتيجة دبلوم التجارة و نجاح أبنه محمد و قدمت له التهنئة الواجبة ولكنة طلب أن يجلس معي في مكتبي لأمر ما …رحبت به بكل ود ومحبة فطلب مني المساعدة في أيجاد فرصة عمل لابنة محمد عبد المعز لرغبة والدته في الإسراع بزواجه كعادة أهل الريف الطيبين خاصة و إنه الولد الوحيد .
ضحكت من كل قلبي لصغر سن محمد ووعدته بالسعي الجدي لدي صديقي عضو النادي الأهلي رجل الاقتصاد و البنوك الدكتور فاروق العقدة رئيس البنك الأهلي المصري وقتئذ (محافظ البنك المركزي المصري السابق)، في يوم الجمعة ذهبت للصلاة في مسجد النادي الأهلي وتقابلت مع الدكتور فاروق العقدة الذي ضحك و وافق علي الفور وطلب مني إحضار محمد عبد المعز يوم الأحد القادم و زيارته في مكتبة بالبنك الأهلي لإتمام أسرع قرار تعيين لخريج لم يمضي علي نجاحه أسبوعا واحدا.
في يوم السبت ذهبت للكلية و أنا أسعد إنسان لفرحي بتحقيق أمنية الصول عبد المعز وحينما وصلت لبوابة الكلية لم أجدة في انتظاري كعادته معي خلال 4 سنوات من عملي بالكلية فسألت زملائه أين الصول عبد المعز، وجدت الدموع الغزيرة تملا عيون كل أفراد الحرس الجامعي و قالوا لي في نفس واحد..”البقاءلله”.. تلقيت الخبر بصدمه عظيمة ..ماذا؟..هل مات عبد المعز؟.. رد علي زميلة لا!! لقد مات ابنة “محمد ” الشاب الذي لم يكمل عمرة 17 عاما وحيد والديه الحاصل علي الدبلوم منذ أيام قليله ، انفجرت نافورة من العيون الحزينة حزنا علي الشاب محمد و إشفاقا علي والده الصول عبد المعز.
رجعت لسيارتي وطلبت من العاملين بالكلية الاستئذان من إدارة الفرع في تخصيص أتوبيس ليتمكن العاملين والطلاب وأعضاء هيئة التدريس بالكلية للذهاب لتقديم واجب العزاء لأسرة الصول /عبد المعز في قريته ، وصلنا لمنزل الصول عبد المعز والذي ما أن شاهدنا حتى بادر باستقبالنا بابتسامة عريضة (تعجبت عجبا شديدا من ابتسامته العريضة وهو في مصابه العظيم لفقد أبنه الوحيد) وحينما اقتربت منه و احتضنته بكل حب و حزن عميق و قلت له البقاء لله يا عبد المعز فرد علي ردا غريبا جدا أحسست معه أنه قد فقد عقله تماما …لماذا تعزيني سعادة الدكتور؟ فقلت أعزيك في ولدك محمد عبد المعز…فرد علي بابتسامه واسعة قائلا أتقصد (عطية) ….فتعجبت من ذلك هل أسم أبنك محمد أم عطية؟؟؟ فرد علي بابتسامه رضا وصبر عظيم لرجل مؤمن بقضاء الله حلوه و مره بكلمات لن أنساها ما حييت …محمد أبني هو (عطية من عند الله) يستطيع الله أن يستردها في أي وقت
بسم الله الرحمن الرحيم (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)صدق الله العظيم
لقد كان رجلا عظيما كريما صابرا وكانت علامات الرضا والصبر تعطي لوجهه الكريم نورا علي نور فلم تتمالك نفسي الضعيفة من تحمل هذا الموقف الإنساني العظيم فانفجرت نافورة من الدموع الساخنة حزنا علي محمد بن عبد المعز ، ولكنه ربت علي وقال أرجوك سيادة الدكتور رفقا بحال زوجتي العزيزة ، لا تزيد من ألامها فهي أم ثكلي علي ولدها الوحيد الحبيب …أمسح دموعك و أدعو لها بالصبر والرضا بقضاء الله عزوجل حتى تفوز بجزاء الصابرين…جئت لأعزيه في مصابه الأليم فقام بتعزيتي أنا ….الله علي جبل الصبر والرضا بقضاء الله….لم أتحمل البقاء أكثر من ذلك وقررت المغادرة للقاهرة فورا ..وفي الطريق توقف بي سائق سيارتي ليطلب مني التوقف عن البكاء و التحمل أرضاء للصول عبد المعز.
في هذا اليوم لم أستطع النوم و قمت لصلاه الفجر ودعوت لزوجة الصول عبد المعز بالصبر والرضاء بقضاء الله ثم وجدت نفسي أتناول قلمي لأكتب خطابا إلي معالي وزير الداخلية وقتئذ اللواء حبيب العدلي لأدعوه لتخفيف الحزن علي أسرة الصول عبد المعز والحصول علي موافقة سيادته لضم أسم زوجة عبد المعز لبعثة الحج لوزارة الداخلية لعل وعسي أن تكون نورا من عند الله لمساعدتها علي تحمل مصابها الجلل.
بعد حوالي أسبوعين من خطابي للوزير تلقيت مكالمة تليفونية من اللواء الدكتور أحمد جاد عضو مكتب وزير الداخلية (رئيس أكاديمية الشرطة حاليا) يزف إلي ببشرة جميلة و هي تقدير الوزير لشخصي تقديرا عظيما وذلك لاهتمامي بشخص رجل الشرطة المحترم المؤمن الصول عبد المعز و أبلاغي بموافقة الوزير علي سفر الصول عبد المعز ضمن بعثة وزارة الداخلية عام 2004 تقديرا منه لكلماتي الطيبة في وصف شخصية كل من معالي الوزيرو الصول /عبد المعز ؟.
وقال لي اللواء الدكتور أحمد جاد…لقد قرأنا جميعا بمكتب الوزير كلماتك الرقيقة التي مست قلوبنا جميعا و معنا معالي الوزير حتى زرفت دموعنا حزنا علي الشاب محمد عبد المعز …وسألني من أين جئت بهذه التعبيرات الراقصة والكلمات الرقيقة التي مست وترا حساسا حتى في قلب معالي الوزير حبيب العدلي المعروف عنه الصرامة و عدم التأثر كثيرا بالموضوعات العاطفية مثل حاله الصول عبد المعز.
فقلت له أن كلماتي كتبت بمداد من عند الله لأنها خرجت من قلم أحب الصول عبد المعز في الله فخرجت الكلمات الصادقة القادرة علي التأثير في القلوب حتى لو كان قلب الوزير الصارم …وقلت له أنني أرفض قرار الوزير الصادر بسفر الصول عبد المعز و المطلوب هو سفر السيدة زوجته الأم الثكلى و عليه أبلاغ معالي الوزير أن قراره هو قرار أنساني بسفر الصول عبد المعز ولكن أين نحن من تنفيذ القرار الإلهي الذي أوحي الله لي لأطلبه من معالي الوزير اللواء حبيب العادلي .
تعجب اللواء الدكتور أحمد جاد من كلماتي و قال لي أعطي لي فرصة للحوار مع معالي الوزير و سوف أرد عليك قريبا جدا..وبالفعل اتصل بي اللواء الدكتور أحمد جاد و كان يتحدث بابتسامه واضحة في نبرات صوته حيث قال لي أن معالي الوزير حبيب العدلي يقول لسيادتكم أنه قد أتخذ القرار الذي يتناسب مع قدراته البشرية حيث أنه لا يجوز له أعطاء منحة الحج لزوجة عبد المعز لأنها ليست زوجة أو أم شهيد من شهداء الشرطة حتى يستطيع منحها الفرصة للحج ولكن في حدود وصلاحيات عمله يستطيع تكريم الصول عبد المعز الجندي المثالي حسب كلماتك الرقيقة عنه.
وأستكمل حديثة مبتسما ابتسامة ذات مغزى قائلا و أن معالي الوزير يقول لسيادتكم أما أنت يا دكتور عوض عباس ،فأنت تتمتع بمرتبة خاصة عند ربنا لذلك أوحي إليك بكتابه الخطاب إلي شخصي الضعيف و بذلك تكون أنت الوحيد المكلف بتنفيذ القرار الإلهي بسفر زوجة الصول عبد المعز وكل ما أستطيع تقديمه لمساعدتك هو منح زوجة عبد المعز تأشيرة حج هدية من وزارة الداخلية مجانية تقديرا لشخصك الكريم ،وعليك أنت أن تستكمل المهمة بدفع مصاريف الحج التي تصل إلي حوالي 12000جنية وقتئذ…فقلت له و أنا سعيد جدا ولكنني لا أمتلك هذا المبلغ و حتى لو كنت أمتلكه فيجب أن أدفعة كمصاريف للحج لي وليس لأحد آخر حيث لا يجوز علي ما كنت أعتقد التبرع لحج آخرين إذا ما لم أكن أديت فريضة الحج.
.فرد علي اللواء قائلا في هذا الشأن نحن نعلم أنك معروف في الجامعة بأنك أحد أهم الداعمين للتكافل الاجتماعي لطلاب الجامعة المحتاجين ولك مجموعة كبيرة من رجال الأعمال الزراعيين الذين يمكنك أن تلجأ أليهم لحل هذه المشكلة، كان مكتب الوزير قد درس الموضوع بعناية وفعلا اتصلت برجال الأعمال من أصدقائي و قمنا بتوفير مصاريف الحج لزوجة الصول عبد المعز، وأصدر وزير الداخلية قراره بتفرغ الصول عبد المعز من أي أعمال في بعثة حج وزارة الداخلية لرعاية زوجته والاستمتاع الكامل بشعائر الحج.
أتم الزوجان الصابران شعائر الحج و بعد أجازة سعيدة من الرحلة الشاقة تقابلت مع الصولعبد المعز الذي كان أسعد إنسان علي وجه الأرض وشكرني وجاء يخبرني بأجمل خبر لأسرته وهو أن زوجته حامل في ولد….ضحكت من كل قلبي و سألته عن الاسم الذي يود أطلاقة علي وليدة الجديد فقال (عوض) فرفضت وقلت له أن هذا الاسم قد عفا عليه الزمن والأسماء الحديثة تليق بالمولود السعيد وطلبت منه أن أقترح علية أسما آخر فرفض قائلا لي أنني أعرف ما يدور في خاطرك…فسألته ماذا يعني ؟فقال لي أنك تريد مني إن أطلق علي ولدي أسم (حبيب) تيمنا بمساعدة معالي الوزير حبيب العدلي ومنحي فرصة أداء فريضة الحج…تعجبت كيف عرف ما يجول بخاطري فقال أن الفضل الأول يرجع لسيادتكم في التفكير في مساعدة زوجتي لذلك كنت أتمني موافقتك علي إطلاق أسم (عوض)عليه ولكنك رفضت و أطلاقي أسم (حبيب) سوف يثير شبهة التقرب للوزير وأنا لا أحب ذلك فمن باب أولي سوف أطلق علية أسم (محمد) لأتقرب إلي الله و رسوله خيرا من التقرب لمعالي الوزير.
ولد الطفل محمد عبد المعز وهو الآن يبلغ من العمر 8 سنوات وفي كل عام يتصل بي الصول عبد المعز و زوجته يوم عيد ميلاد نحمد لنحتفل جميعا بميلاده السعيد.
هذه شهادة للتاريخ عن موقف عظيم لوزير الداخلية الأسبق اللواء حبيب العدلي ، أذكره لعله يكون في ميزان حسناته في وقت الشدة التي ألمت به لعل الله يخفف عنه و يرحمه .
وفي هذه المناسبة أود أن أتقدم بمعاني التقدير و الاحترام لسعادة اللواء الدكتور أحمد جاد رئيس أكاديمية الشرطة السابق لدوره البارز في حواري مع الوزير اللواء حبيب العادلي ،
كاتب المقال
الدكتور عوض عباس رجب ، مقرر لجنه معاهد السياحة و الآثار بقطاع التعليم بوزارة التعليم العالي
أستاذ الكيمياء الحيوية كلية الزراعة جامعة القاهرة
مدير مركز جامعة القاهرة للتعليم المفتوح سابقاً