في غضون عامين، شنت إسرائيل ثلاثة حروباً، من سلسلة حروبها على غزة؛ وهم حرب غزة الرابعة في مايو 2021، والخامسة في أغسطس 2022، ثم الحرب السادسة التي تدور طحاها الآن. والحقيقة أن معظم تلك الحروب، إن لم يكن كلها، تبدأها إسرائيل، ويلاحظ أنها تشنها كل عام، تقريباً، وهو ما لا يعتبر محضاً للصدفة، وإنما هو توقيت محسوب وفقاً لاعتبارات وأسباب تخص إسرائيل. وبالبحث والتحليل لتلك الاعتبارات والأسباب، يمكننا استنتاج دوافع إسرائيل في اختيار توقيت حربها على الشعب الفلسطيني، وحصرها في عدة نقاط.
أولها، وأهمها، معالجة شأن أو ظرف داخلي، وهو ما ينطبق على الحرب الجارية، حالياً، والتي جاءت في أعقاب تشكيل الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، برئاسة بنيامين نتنياهو، ورغبته في تعديل نظام القضاء الإسرائيلي، بمنح الكنيست حق تعيين القضاة، وحق رفض الأحكام الصادرة عن المحكمة العسكرية الإسرائيلية العليا. وأمام إدراك الإسرائيليون لمحاولاته الإفلات من الاتهامات في ثلاث قضايا فساد، رفضوا تلك التعديلات، واندلعت الاحتجاجات والمظاهرات داخل إسرائيل لعدة شهور، فلجأ، نتنياهو، للحرب، لصرف نظر المجتمع الإسرائيلي، عن هذه المشكلة.
أما السبب الثاني لاختيار توقيت الحرب السادسة، فيرجع لجمع الموساد حجماً كبيراً من المعلومات عن الفصائل الفلسطينية، سواء القادة أو الأسلحة، أو أماكن التمركز، وهو ما يستلزم، من وجهة نظر إسرائيل، ضرورة قيام الجيش بعملية سريعة، لتصفية القادة الفلسطينيين، وتدمير أسلحتهم، ومصانعها. وهو ما يرتبط بالسبب الثالث، وهو اختبار التعديلات والتطورات التي تمت، خلال العام الماضي، في نظام “القبة الحديدية”، وهو ما لا يتسنى إلا بمعركة حقيقية، بالإضافة إلى تجربة منظومة “مقلاع داوود”، ذلك النظام الجديد للتصدي للصواريخ الباليستية، والمحتمل أن تستخدمه إسرائيل في حالة أي نزاع عسكري مع إيران.
وتعتبر الرغبة الإسرائيلية في استنزاف مخزون صواريخ المقاومة الفلسطينية لدى سرايا القدس، الذراع العسكري للجهاد الإسلامي، هو السبب الرابع لشن تلك الحرب، بعرض إضعاف المقاومة، في ظل صعوبة حصولها على صواريخ إيرانية جديدة، لتصنيعها في غزة. أما خامس أسباب اختيار توقيت الحرب، فهو اختبار الأساليب الجديدة للمقاومة الفلسطينية، ففي حرب العام الماضي ابتدعت المقاومة أنفاق غزة، التي أطلقت صواريخها منها، دون أن تشعر إسرائيل، أما في العام الحالي، فكانت المفاجأة في قيام المقاومة بنشر، وإطلاق صواريخ تشويش على نظام القبة الحديدية، وكانت المفاجأة لإسرائيل، وفي المقابل استخدمت إسرائيل، لأول مرة، صواريخ مضادة للطائرات، أظنها من طراز كورنيت، وهو ما سيشكل عبئاً إضافياً، على إسرائيل، في أي معركة لاحقة.
أما آخر الأسباب، من وراء افتعال تلك الحرب، فيعود لمحاولات نتنياهو إقناع الإسرائيليين بأن حكومته اليمينية، هي الأنسب، والأصلح، لقيادة إسرائيل، في الفترة الحالية، للتصدي “للإرهاب الفلسطيني”، كما يدّعي، مثيراً حالة من الذعر، ومدللاً على ذلك بأن صواريخ المقاومة وصلت إلى العاصمة تل أبيب، طبقاً للبيانات الإسرائيلية، التي تفيد، كذلك، بإن إسرائيل أطلقت 1100 صاروخ في هذه العملية، وقدرت تكاليف تلك الحرب بأكثر من مليار دولار. وفي المقابل، أطلقت المقاومة الفلسطينية عملياتها باسم “ثأر الأحرار”، وفقدت سبعة من قيادات سرايا القدس، وهو ما يشير إلى أن الموساد الإسرائيلي، اخترق صفوف المقاومة الفلسطينية، بدليل تمكن إسرائيل من التعرف على أسماء القادة وأماكن تواجدهم، كما يشير لقصور أمني على جانب المقاومة الفلسطينية، والتي كان لزاماً عليها تأمين قياداتها، في أماكن غير معروفة، مع بدء المعركة، وهو ما يعتبر بديهيات قواعد التأمين.
ورغم الألم، والخسائر، إلا أننا لا نغفل الجوانب الإيجابية، وأهمها إرساء المقاومة الفلسطينية لمبدأ صمودها أمام ضربات إسرائيل الغاشمة، وتأكيد الشعب الفلسطيني على استمرار دعمه للمقاومة، بتحمل الضغط خلال فترات المعارك. ولا شك أن إسرائيل قد أيقنت قدرات المقاومة وتطور أسلحتها، التي صارت تهدد العمق الإسرائيلي، حتى العاصمة تل أبيب، ولابد وأنها أدركت بأن السلام لن يتحقق إلا بالاستماع للمطالب الفلسطينية. أما ثاني الرسائل التي أرسلتها المقاومة الفلسطينية، وقرأها العامة، فهي أن الجهاد الإسلامي، بذراعه العسكرية، هو من حارب إسرائيل، هذه المرة، دون تدخل من حماس، التي كان تدخلها سيزيد من حجم الخسائر على الجانب الإسرائيلي، عما هو الحال اليوم. فبعدما شهدنا سكان المستوطنات الإسرائيلية، يمكثون في الملاجئ، خمسة أيام متواصلة، خوفا من صواريخ المقاومة الفلسطينية، أظنهم سيلعبون دوراً فاعلاً في ضرورة التوصل إلى حل سلمي للقضية.
وكدأبها في دعم ومساندة القضية الفلسطينية، نجحت مصر، للمرة الثالثة، في ثلاث سنوات، في احتواء الموقف، وتهدئته، سواء بعقد اجتماعات، في القاهرة، مع السيد محمد الهندي رئيس الدائرة السياسية في حركة الجهاد الإسلامي، أو من خلال إرسال وفد إلى عاصمة تل أبيب، لحث الأطراف على وقف إطلاق النار، وهو ما نجحت الإدارة المصرية في الوصول إليه، بهدف تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، ورفع المعاناة عن كاهل الشعب الفلسطيني، الحبيس في أكبر سجن في العالم، يعيش خلفه 2 مليون سجين، في غزة، منذ نكبة عام 48،. وهكذا تظل مصر، دوماً، حجر الزاوية، وميزان الاستقرار في المنطقة، وهو ما أكد عليه الرئيس الأمريكي، جو بايدن، خلال شكره للقيادة المصرية على مساعيها لتحقيق هذا السلام.
كانت تلك رؤيتي للموقف … ولنراقب معاً ما سيجلبه علينا شهر مايو من عام 2024!
كاتب المقال
اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج
Email: [email protected]
واحداً من أهم أبناء القوات المسلحة المصرية.
ولد في 14 يناير في مدينة بورسعيد، لأب وأم مصريين.
تخرج، سمير فرج، من الكلية الحربية عام 1963.
والتحق بسلاح المشاة، ليتدرج في المناصب العسكرية حتى منصب قائد فرقة مشاة ميكانيكي.
تخرج من كلية أركان حرب المصرية في عام 1973.
والتحق بعدها بكلية كمبرلي الملكية لأركان الحرب بإنجلترا في عام 1974، وهي أكبر الكليات العسكرية في المملكة البريطانية،وواحدة من أكبر الكليات العسكرية على مستوى العالم.
فور تخرجه منها، عُين مدرساً بها، ليكون بذلك أول ضابط يُعين في هذا المنصب، من خارج دول حلف الناتو، والكومنولث البريطاني.
تولى، اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج، ، العديد من المناصب الرئيسية في القوات المسلحة المصرية، منها هيئة العمليات، وهيئة البحوث العسكرية. وعمل مدرساً في معهد المشاة، ومدرساً بكلية القادة والأركان. كما عين مديراً لمكتب مدير عام المخابرات الحربية ورئاسة إدارة الشئون المعنوية.
تتلمذ على يده العديد من الشخصيات السياسية والعسكرية البارزة، إبان عمله مدرساً في معهد المشاة، ومدرساً في كلية القادة والأركان المصرية.
لم تقتصر حياته العملية، على المناصب العسكرية فحسب، وإنما عمل، سمير فرج، بعد انتهاء خدمته العسكرية، في العديد من المناصب المدنية الحيوية، ومنها وكيل أول وزارة السياحة، ورئيس دار الأوبرا المصرية، ومحافظ الأقصر. ويشغل حالياً منصب رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب لشركة NatEnergy.
وله العديد من الكتب والمؤلفات العسكرية، خاصة فيما يخص أساليب القتال في العقيدة الغربية العسكرية. كما أن له عمود أسبوعي، يوم الخميس، في جريدة الأهرام المصرية ومقال أسبوعى يوم السبت فى جريدة أخباراليوم.