فى هذا العمل نتوقف أمام روائى لا يكتب بل يحكى، الكتابة حشرجة، وفى الكتابة إحساس بالمراقبة، بينما فى الحكى استرسال وتدفق وانهمار. ورواية «الكحكح» عن نصف دستة مسنات وحيدات كلهن تجاوزن الخامسة والثمانين. والبنك والتأمينات والأقارب والعالم يعدون على الأصابع فى انتظار موتهن، وشراء أكفانهن، لكنهن يقررن شيئا آخر. يقررن الحياة. ووضعن دستورا وجدولا ونظاما. كل واحدة منهن تستضيف زميلاتها يوما فى الأسبوع ببيتها من العاشرة صباحا حتى العاشرة مساء. وتطبخ لهن أحلى المأكولات.. ليعشن بعيدا عن هذا العالم. يرقصن التويست والتشاتشاتشاه ويلعبن الكوتشينة ويدخلن السينما ويشاهدن مباريات الكرة وأفلام أودرى هيبورن ورشدى أباظة وسعاد حسنى ويركبن المراجيح. ويزيد يوم للاستراحة ونظافة البيت.
فى هذا العمل نتوقف أمام روائى لا يكتب بل يحكى، الكتابة حشرجة، وفى الكتابة إحساس بالمراقبة، بينما فى الحكى استرسال وتدفق وانهمار. ورواية «الكحكح» عن نصف دستة مسنات وحيدات كلهن تجاوزن الخامسة والثمانين. والبنك والتأمينات والأقارب والعالم يعدون على الأصابع فى انتظار موتهن، وشراء أكفانهن، لكنهن يقررن شيئا آخر. يقررن الحياة. ووضعن دستورا وجدولا ونظاما. كل واحدة منهن تستضيف زميلاتها يوما فى الأسبوع ببيتها من العاشرة صباحا حتى العاشرة مساء. وتطبخ لهن أحلى المأكولات.. ليعشن بعيدا عن هذا العالم. يرقصن التويست والتشاتشاتشاه ويلعبن الكوتشينة ويدخلن السينما ويشاهدن مباريات الكرة وأفلام أودرى هيبورن ورشدى أباظة وسعاد حسنى ويركبن المراجيح. ويزيد يوم للاستراحة ونظافة البيت.
فى قصة كل واحدة قمة درامية ومفارقة، لنستمع إلى كونشرتو ست آلات، وكل آلة بصوتها تتناسب مع شكل الشخصية، وكل شخصية لها أزمتها. لا يوجد صراع طبقى أو اجتماعى، كلهن مستورات وواحدة أو اثنتان ثريات والمشكلة والصراع ليس فى الواقع الاجتماعى بحدوده الضيقة، بل هو الواقع البشرى والإنسانى عموما وقضايا الوجود. وفكرة الرغبة أو العزم على مغالبة الزمن بثتها أنعام فى زميلاتها. والرواية كلها نسائية والرجل الذى هو عنصر غائب مضمر محكى عنه، إما كفاعل مؤثم أو كموضوع مجرد أو موضوع للمتعة. وفى الرواية ثلاثة رجال تقريبا، منهم ذكران فقط لم يتدنسا بتهمة طغيان الذكر: محمد حفيد اللواء شاكر. وزوج رتيبة. نعود إلى عنوان الرواية و«الكحكح»- وفقا للسان العرب- المرأة العجوز إن تجاوزت 80 عاما. لكن تعالوا لنستمع لكل صوت منهن على حدة: إنعام معلمة المسرح أول لحن أنجبت أربعة وماتوا كلهم بعد موت زوجها وتركوها- الحياة. تتغير تنهار المبانى والشوارع وينهار التعليم حولها والمدارس وفى الخواء الذى تعيشه تتذكر محمود أول حب لها، ولم تره إلا عجوزا طاعنا نسيت اسمه عندما حضر ليعزيها فى ابنها الميت!. لماذا جاء، وكان الأفضل أن يختفى لتظل صورته القديمة. سلوى الشاعرة الجميلة مات الزوج ورحل الأولاد (مونولوج ما قبل الموت) المريضة بشيزوفرينيا وجنون التعقب والهلاوس تتلقى رسائل تهديد بالقتل، تكتبها لنفسها وفى الآخر انتحرت. الأبلة الناظرة الثرية جيلان دفنت نفسها بأموالها فى بيت مسنين طلبا للرعاية لتكتشف أن الحب والونس أشياء لا تشترى. مدرسة التربية الرياضية وصاحبة مصانع ملابس الأطفال إخلاص تعيش وحدها بلا طلاق، ولم تسمح لها الكنيسة بالزواج الثانى، مات حبيبها وتقيم علاقة إنسانية جميلة مع حفيدها الوحيد الغائب مع أبيه فى أمريكا. نادية كانت أكثرهن ألما، أهانها زوجها حتى إنها أصرت أن تهينه بأن يراها تخونه مع متشرد، وعاشت هاربة من أولادها وزوجها. رتيبة مدرسة اللغة العربية أحبت زوجها ولا تعرف كيف سمحت بأن يموت وهو نائم بجوارها وتعاقب نفسها على ذلك. ضى الفنانة التشكيلية مدمنة الحشيش ترى العالم من مكان آخر وتطالع مجلة الموت الأوروبية وترسم بحرية وبلا انقطاع. الرواية محكمة ومضغوطة ليس بداخلها سطر زائد ولا كلمة للحذف. إيقاع منضبط – مثل بيت شعر- ولغة مدروسة بعناية تتدفق دون توقف ودون اختلال فى الإيقاع– حتى اختيار عادل سعد لقصيدة كتبها حفيد اللواء شاكر أو كتابته لها موفقة جدا، فهى قصيدة نثر بما يعكس واقع الشعر حاليا وواقع المندسين فيه بنفس لغتهم أنظر لكلمات القصيدة:
«مطعم»:
«وجهى بصفحة الطبق..
والدجاج يدور على النار مصلوبًا على عجلة الملاهى، مع الموسيقى ورائحة الشواء..
وكنا نتسامر.. وتمددت أمامنا دجاجة..
لا أحب الصدر.. وبادلنى صديقى بالفخذ.. ورمينا الأجنحة..
خارجان من مطعم الدجاج كنا..
كتكوت صغير يبكى: «هل شاهد أحدكما أمى؟».
فى الكحكح نحن أمام رواية صادقة ولا أريد للقارئ أن يحكم على تلك العبارة بكونها تفرض عليه رأيا مسبقا للنقد فى عمل أدبى، ربما قبل أن يقرأه لكن دعونا نعرف ما هو المقصود بالصدق فى عمل أدبى؟، وهل هو تلك الحالة من الاتفاق بين مكونات العمل ومنطقة السردى أو ما كان يسمى بعلاقة الشكل والمضمون. وهو أيضا مفهوم نقدى لم يعد مقبولا إلى حد كبير بسبب فصله غير المنطقى للروح عن الجسد. أم أن المقصود به صدق نقل الواقع أو أمانة التعبير عنه إلى حد المطابقة، وهو أيضا تفسير أو منطق أو أسلوب منتقد غير مقبول.
يتبقى إذن تمثل الواقع لا بحرفيته وإنما بمحاكاته- حسب التصور الأرسطى- فالعمل الأدبى محاكاة لفعل الحياة أو أفعال البشر. وهو ما ينطبق على فن السرد، سواء قصة قصيرة أو رواية، رغم تكريس أرسطو وتخصيصه ذلك فى البدء للدراما. فهل ما كتبه عادل سعد فى الكحكح نقل حرفى للواقع، أو تقليد له، أم أنه البناء المطابق المتمثل لهذا الواقع ومحاكاته فى سبيكة جديدة لا تنكره ولا تقلده ولا تنقله حرفيا، بل تلهم الكاتب أن يدخل بخياله المبدع عليه فيعيد صياغته وتشكيله أو يغنيه بالسبك حسب عبارة الجاحظ المحكمة
شخصيات «الكحكح» إذن على يقين بأن إعادة عجلة الزمن إلى الوراء مستحيلة، لكن معالجة الواقع ربما كانت ممكنة إما بتجميلها وإما بالتحايل عليها ومخاتلتها والانفلات منها بفعل الاختفاء أوالارتماء فى أحضان مسرح ليعشن فيه أدوارا طالما تمنينها أو أدوارا يعترضن عليها ويعلن الاحتجاج أو التمرد ضدها.
لكن لن يحلمن باستمرارهن فى تلك الأدوار المسرحية للأبد، فلابد من إسدال الستار لكنها المخفضات والمهدئات والانتصار على فعل الزمن وهزيمتهن ولو لفترة قصيرة لا تقاس مطلقا بعمر العرض المسرحى أو حتى بأعمارهن، سواء ما انصرم منها أو ما تبقى.
نحن إذن أمام نص درامى حبيس داخل السرد.
الذى لم يوفق توفيق الحكيم فى تضمينه داخل الدراما فجاءت «المسرواية» لديه مجرد لصق، بينما هى فى «الكحكح» التحام عضوى يمثل الولادة معا وليس لصق توأمين معا، بل هو ولادة واحدة خلقت جسدا داخل جسد وروح تمركزت فى روح.
والرواية تطرح زوايا متعددة بدراما شافية بالفعل وليس العلاج بالوهم – من خلال التطهير والعدالة وخلق العالم البديل والخروج من الظلام الخاص وخلق السعادة والاستعاضة عن ذلك العالم الواقعى المر والمتهم والمدان بخلق عالم بديل حميم وحقيقى وخاص ومن صناعتهن حتى ولو كان مؤقتا- ليهربن إلى جنة من عمل أيديهن، فهل هو الوهم أم التوهم؟، وهل هى أفعال تعويضية لاختلاس سعادة حقيقية حتى ولو كانت توهما أو خيالا؟