تتصاعد الأحداث في الحرب الروسية الأوكرانيةيوماً بعد يوم، وأصبح من الصعب التكهن بما سيحدث الأيام القادمة. وكان الهجوم الروسي على أوكرانيا قد بدأ في 24 فبراير الماضي. حيث كانت جميع التقديرات من كل الخبراء العسكريين، ومراكز الدراسات الإستراتيجية في العالم كله ترى أن هذه الحرب لن تطول أكثر من ثلاثة إلى أربعة أشهر، على أكثر تقدير. وكان السبب في ذلك هو أن روسيا هي القوة العسكرية الثانية في العالم، وأوكرانيا بترتيب القوة العسكرية ال 25 في العالم. وعندما بدأت روسيا هجومها؛ نجحت في العشرة أيام الأولى بتدمير البنية العسكرية الأوكرانية نحو قواتها الجوية، والمطارات، والدفاع الجوي، والرادارات، ومراكز القيادة والتجميعات الرئيسية للقوات الاوكرانية. بعدها بدأت في الهجوم في اتجاه كييف العاصمة لإسقاط الدولة، حتى أن الرئيس بوتن، في الأيام الأولى للقتال، نادى العسكريين الأوكرانيين بعمل انقلاب وإزاحة الرئيس الأوكراني زيلينسكي. وفي هذا التوقيت، ولجأت أوكرانيا إلى حرب المدن، لقتال القوات الروسية.
الأمر الذي يعتبر لدى العسكريين أن حرب المدن هي مقبرة الجيوش المهاجمة، ولعل أبسط مثال على ذلك، فشل الجيش الإسرائيلي في الاستيلاء على مدينة السويس، يوم 24 أكتوبر 73، عندما تصدى له أفراد من المقاومة الشعبية، وتم تدمير الدبابات الإسرائيلية، في حي الأربعين، في مدخل مدينة السويس. لذلك، عندما تعثرت القوات الروسية أمام كييف العاصمة الأوكرانية، فهناك من نصح الرئيس بوتن أنه لماذا يتم إزاحة الرئيس الأوكراني زيلينسكي، وهو رئيس منتخب من الشعب، ومطلوب توقيع اتفاق سلام، يوقع هو بنفسه على الاتفاق. لذلك، غيرت القوات الروسية اتجاه هجومها نحو شرق أوكرانيا، حتى نجحت بعد ستة أشهر في الاستيلاء على 20% من الأراضي الاوكرانية، في إقليم دونباس، في لوجانسيك، ودونتسك، وزابورجيا، وخيرسون.
ولقد قامت أمريكا، ودول حلف الناتو، بدعم أوكرانيا عسكرياً، وإقتصادياً. ولقد كانت استراتيجية الولايات المتحدة منذ بدء القتال هي إطالة زمن هذه الحرب، بهدف استنزاف روسيا إقتصادياً. لذلك، كان دعم أوكرانيا دائماً من الولايات المتحدة بأسلحة دفاعية، ولم يتم دعمها بأي أسلحة هجومية. وعندما طلبت أوكرانيا الدبابات الليوبارد من ألمانيا، تم رفض طلبها. وعندما طلبت طائرات ميج 29 من بولندا، على أن ترد أمريكا لبولندا طائرات إف-16 بدلاً منها، رفضت أمريكا. وعندما قامت أمريكا بدعم أوكرانيا بالصواريخ هيمارس ذات المدى البعيد 70-80 كم، كان شرط أمريكا ألا تستخدم أوكرانيا هذه الصواريخ لضرب العمق الروسي. ورغم نجاح القوات الأوكرانية في الهجوم المضاد في اتجاه خاركيف، واسترجاعها عدة آلاف من الكيلومترات المربعة. وكان سبب النجاح، هو المعلومات، والتخطيط الأمريكي. وفجأة، بدأ الرئيس الروسي بوتن يغير من استراتيجيته، فلم يعمل على سرعة إنهاء الحرب، لكنه اتبع استراتيجية جديدة، وهي إطالة زمن الحرب، حتى تصل إلى الشتاء القادم، باستخدام سلاح الغاز الذي تصدره روسيا إلى دول أوروبا، والذي يمثل 49% من احتياجات هذه الدول؛ لذلك، بدأت بتعطيل دفع الغاز الروسي إلى أوروبا، تارة تحت ستار عمل صيانة في توربينات محطات الغاز عبر خط الغاز نوردستريم. وأخيراً، كانت المفاجأة بحدوث تفجيرات في خط الغاز ليتعطل دفع الغاز الروسي إلى أوروبا، حيث تهدف روسيا إلى حدوث أزمة في الغاز في دول أوروبا، في الشتاء القادم، وبالتالي تتعرض شعوب هذه الدول إلى الشعور بالصقيع، وهنا يأتي دور الجنرال برد في قيام هذه الشعوب بالثورة على حكوماتها، مطالبةً بالتخلي عن دعم أوكرانيا، في سبيل الحصول على الغاز الروسي. وهذه الأيام، بدأت بعض هذه المظاهرات في التشيك، وألمانيا.
وفي إطار هذه الاستراتيجية الجديدة، قامت روسيا بعمل استفتاء في المناطق الأربعة الأوكرانية لوجانسك، ودونتسك، وزابورجيا، وخيرسون، لسؤالهم عن رغبتهم في الانضمام إلى روسيا، خاصةً، أن معظم شعوب هذه المناطق، تتحدث الروسية، ومن أصل روسي. وجاءت نتيجة الاستفتاء بالموافقة. وأعلن، الرئيس بوتن، ضم هذه المناطق الأربعة إلى روسيا الاتحادية، ورغم رفض جميع الدول الأوروبية، وأمريكا، لهذا الاستفتاء؛ لأنه تم في ظل احتلال هذه المناطق، الأمر المرفوض دولياً. إلا أن جاء رد روسيا بأنها طلبت مراقبين دولين للحضور والإشراف على الاستفتاء.
وعموماً بدأت أمريكا، والدول الغربية، في فرض عقوبات إقتصادية على روسيا. وتغير الموقف حالياً، خاصة أن هناك من يعلن أنه تكرار لما حدث عام 2014، عندما ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، وكان رد فعل أمريكا، ودول أوروبا، هو العقوبات الإقتصادية، التي لم تسفر عن شيء. وجاء اشتعال الموقف عند قيام أوكرانيا بعملية إرهابية بتفجير سيارة مفخخة فوق كوبري كاريتيش، الذي يصل بين روسيا وشبه جزيرة القرم، حيث اعتبرته روسيا عملاً عسكرياً داخل الأراضي الروسية؛ لذلك، قامت بتوجيه ضربات صاروخية بقوة 75 صاروخ فرط صوتي، على عدة مدن أوكرانية، بدءاً من العاصمة كييف وضد الأهداف المدنية في محطات الكهرباء والمياه والجسور ومحطات الوقود. على أية حال، فأن الفترة القادمة ستشهد عن تغيرات، الأول هو بدء مرحلة التصعيد في المنطقة، يشمل تصعيد سياسي، وعسكري، وإقتصادي. كذلك، بدأت الخريطة السياسية لأوروبا تتغير بانضمام هذه المناطق إلى روسيا. وثالثاً، أن العالم سيدخل مرحلة جديدة من التعددات القطبية، فلن تكون أمريكا هي القطب الأوحد، بل أصبحت روسيا من الآن هي القطب الثاني، وسينضم معها، ربما قريباً، الصين، وكوريا الشمالية. كذلك، يبدأ، من اليوم، طلاق استراتيجي كامل بين روسيا والولايات المتحدة ودول حلف الناتو. وبدخول هذه المناطق الجديدة تحت العلم الروسي، تكون روسيا قد أضافت 20% من الناتج القومي الأوكراني لها، وكذلك مناجم الفحم، في دونباس، وصناعة الصلب، والحبوب، وأكبر مجمع لصناعة السفن في خيرسون، وأصبح بحر أزوف الآن تحت السيطرة الروسية الكاملة. وجاءت المفاجأة الثانية، بعد إعلان بوتن ضم هذه المناطق الأربعة، هو نجاح الهجوم المضاد الثاني للقوات الأوكرانية، بالاستيلاء على بلدة ليمان الاستراتيجية، حيث انسحبت القوات الروسية من هناك، ويأتي هذا الهجوم المضاد الثاني بعد نجاح الهجوم المضاد الأوكراني الأول بالاستيلاء على منطقة خاركيف، لذلك ارتفعت معنويات الجيش الأوكراني حالياً، حيث من المنتظر أن يستغل هذه النجاحات بالقيام بضربات أخرى ضد القوات الروسية.
وبدأ التصاعد الأكثر حول احتمالات التدخل النووي، والذي اعتقد أنه حدث بعيد المنال لكلا القوتين. من هنا، أصبح العالم الآن يسير في اتجاه حقبة جديدة، وأعتقد أن الجميع ينتظر ما ستظهره الأيام القادمة، والذي، في اعتقادي، أنه لن تظهر ملامحها، إلا بعد الانتهاء من انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، بعدها سنرى الشكل الجديد للاستراتيجية الأمريكية، ونتائج حرب الغاز الروسي في مسرح عمليات أوروبا الغربية.
Email:f [email protected]
كاتب المقال
اللواء أركان حرب الدكتور سمير سعيد محمود فرج
هو احداً من أهم أبناء القوات المسلحة المصرية
ولد في 14 يناير في مدينة بورسعيد، لأب وأم مصريين.
تخرج، سمير فرج، من الكلية الحربية عام 1963
والتحق بسلاح المشاة، ليتدرج في المناصب العسكرية حتى منصب قائد فرقة مشاة ميكانيكي.
تخرج من كلية أركان حرب المصرية في عام 1973
والتحق بعدها بكلية كمبرلي الملكية لأركان الحرب بإنجلترا في عام 1974، وهي أكبر الكليات العسكرية في المملكة البريطانية،وواحدة من أكبر الكليات العسكرية على مستوى العالم.
فور تخرجه منها، عُين مدرساً بها، ليكون بذلك أول ضابط يُعين في هذا المنصب، من خارج دول حلف الناتو، والكومنولث البريطاني.