اليوم السادس من أكتوبر، يوم تحتفل به مصر، والأمة العربية، بأغلى انتصاراتها في العصر الحديث، بعد أن محت مصر، وجيشها العظيم، عار هزيمة يوم الخامس من يونيو عام 1967. فرغم مرور 49 عاماً على تحقيق هذا النصر، لازلت أتذكر تفاصيله جيداً، وكأنه الأمس القريب.
وأنا أصغر ضباط غرفة عمليات القوات المسلحة، سناً، وأحدثهم رتبة، حيث كنت رائداً، لم يمر أكثر من أسبوعين على تخرجي في كلية الأركان حرب. ولما كان ترتيبي الأول، بتقدير امتياز، على دفعة قوامها 153 ضابطاً، من أكفأ الضباط، فقد تم توزيعي على هيئة عمليات القوات المسلحة لحرب أكتوبر، التي بدأنا التحرك منها لفتح مركز العمليات، الذي أديرت منه الحرب المجيدة.
وفي الأيام الأولى لفتح هذا المركز، كنا ننفذ مشروع إستراتيجي، تدريبي، لاختبار عمل المركز، خاصة فيما يرتبط بشبكة الاتصالات مع الجيوش الميدانية، والقوات الجوية، والبحرية، والدفاع الجوي، وحتى القيادة السورية في دمشق، وباقي عناصر القوات المسلحة.
وجاء يوم السادس من أكتوبر، وفي تمام العاشرة صباحاً، رفعنا خرائط المشروع التدريبي، ووضعنا خرائط “الخطة جرانيت”، المعدلة، وهي الخطة المعدة لاقتحام قناة السويس، وخط بارليف الإسرائيلي، وتكوين رأس كوبري على الضفة الشرقية لقناة السويس.
والله لازلت أذكر شعور الرهبة الممزوج بالعزة والفخر، بينما نفتح سجلات الحرب لهذه العملية الهجومية، ونتلقى إشارات توزيع ساعة الهجوم على القادة، كل حسب مهمته ومكانه. كما بدأنا نتلقى استعداد القوات في أماكنها الجديدة لبدء الهجوم، والتي كان منها وصول مجموعة القوات البحرية المصرية، لمنطقة باب المندب، في البحر الأحمر، لتنفيذ أوامر القيادة العامة للقوات المسلحة، بإغلاق المضيق أمام الملاحة الإسرائيلية.
وفي حوالي الساعة الثانية عشر ظهراً، وصل الرئيس الراحل أنور السادات، مرتدياً زيه العسكري، يخلفه عدد من الجنود، يحملون صواني رصت عليها الشطائر والعصائر. ولأن اليوم تزامن مع العاشر من رمضان، فلقد أمسك السيد الرئيس بالميكروفون، قائلاً، “إحنا في رمضان، وقد أفاد المفتي أننا في جهاد لتحرير الأرض المغتصبة، وعليه فقد أجاز الإفطار في نهار رمضان” ووجه بإبلاغ كل قواتنا، وأولادنا، على جبهة القتال في سيناء، بتلك الفتوى، بينما الجنود يمرون لتوزيع الشطائر، التي وضعناها، جميعاً، في الأدراج، ويشهد الله، أننا لم نتناول إلا الماء، عندما حان موعد آذان المغرب، وهو ما فعله الجميع على جبهة القتال.
ولا أخفيكم سراً، أنني وغيري، لم نكن متوقعين بدء الهجوم؛ فهل سنشهد ذلك اليوم، فعلاً، بعد ست سنوات من حرب الاستنزاف؟ هل سيتحقق الأمل، ونهزم العدو الإسرائيلي المتغطرس؟! ولم نتأكد، إلا في الساعة الثانية ظهراً، عندما تابعنا، على شاشات الرادار، عبور 220 طائرة مصرية، لقناة السويس، وتنفيذ الضربة الجوية ضد الأهداف الإسرائيلية في سيناء. بعدها بدأ العبور، وتوالت أجمل الإشارات عن عبور موجات العبور، وسقوط نقاط خط بارليف، الواحدة تلو الأخرى. وأتذكر في الرابعة ظهراً، بينما أنا في الغرفة الرئيسية، مشغول بخريطة العمل، أن نادى عليّ الرئيس السادات، قائلاً “يا ابني الخساير كام لحد دلوقتي؟”. وكانت المفاجأة، بعد حصر الأرقام الواردة من الجيشين الثاني والثالث، أن الرقم لا يذكر، ولا يُقارن حتى بخسائرنا في أيام التدريب على العبور، في نهر النيل، لأن قواتنا كانت قد وصلت لدرجة الاحترافية.
وأذكر، كذلك، أنه في الساعة الثالثة، أي بعد ساعة من الضربة الجوية، رأيت اللواء الجمسي، رئيس العمليات، آنذاك، يقوم من مكانه، ممسكاً بورقة، ناولها للفريق الشاذلي، رئيس الأركان، حينها، ثم قاما سوياً، إلى المشير أحمد إسماعيل، وزير الحربية، الذي أخذ منهما الورقة، واطلع عليها، قبل أن يتوجه للرئيس السادات، ويطلب منه الاجتماع مع سيادته في غرفة صغيرة، خارج المركز. وبعد أقل من دقيقتين، خرجا من الغرفة، ووجه الرئيس السادات كلامه للمتواجدين بغرفة العمليات، فقال، “يا أولادي، أخويا الطيار عاطف السادات أستشهد في الضربة الجوية، وكان غالي عليّ جداً، ولكنه ليس أغلى علينا من مصر”.
وتابع سيادته اليوم معنا، من غرفة العمليات، ونحن نتلقى أجمل البلاغات بسقوط نقاط خط بارليف في يد الجيش المصري، واستمرت موجات عبور قناة السويس، بالقوارب، على مدار 12 موجة، كان خلالها رجال المشاة يقاتلون، بدون دبابات، لصد كل الهجمات الاسرائيلية المدرعة، التي حاولت مقاومة قواتنا، وقهقرتهم للضفة الغربية، إلا أن أبطالنا المقاتلون، بدون دبابات، والمعتمدين على سلاح “ر ب ج”، وصواريخ الفهد، فقط، تمكنوا بإصرارهم واستبسالهم وشجاعتهم، أن يدمروا جميع المدرعات الإسرائيلية، التي تصدت لهم، ونجحت قواتنا في التشبث بالأرض العزيزة في سيناء.
ومع غروب شمس يوم السادس من أكتوبر، اندفعت العربات تحمل براطيم الكباري، وتنزل مياه القناة، وتنجح، رغم ظلام الليل، في إنشاء خمس كباري على طول القناة. وعلى ضوء القمر، وفقاً لحسابات خطة الهجوم، بدأت الدبابات والمدفعية تعبر إلى الضفة الشرقية للقناة، على الكباري المقامة، وفشلت كافة محاولات الطائرات الإسرائيلية في الاقتراب من قواتنا التي أنشأت الكباري، أو التي عبرت القناة، بفضل حائط الصواريخ المصري، الذي منع القوات الجوية الإسرائيلية من الاقتراب من قناة السويس، وصار، من يومها، أحد أهم أشكال الدفاع، في النظم العسكرية العالمية.
لقد وضعت قواتنا المسلحة المصرية، خطة عظيمة، اعتمدت فيها على عنصري الخداع الاستراتيجي والمفاجأة، وعلى كفاءة وإصرار وبسالة أبنائها الأوفياء، فهزمت العدو الإسرائيلي، وحققت نصراً مبيناً يوم السادس من أكتوبر، الذي صار رمزاً لعظمة جيش مصر وشعبها العظيم.