مع بداية الصراع الروسي الأوكراني، يوم 24 فبراير الماضي، انشغلت مراكز الدراسات الاستراتيجية الدولية، بمحاولة التنبؤ بتطور الأحداث على الصعيد العالمي، ومنها إمكانية انتهاز الصين، لانشغال العالم بهذه الحرب، للقيام بغزو تايوان، وإعلان انضمامها رسمياً لها. والحقيقة أن السؤال طُرح عليّ، مراراً، في كثير من اللقاءات الإعلامية، مع المحطات الإخبارية المحلية والعربية، وهو ما أجبت عنه، بوضوح، بأن الصين لن تقدم على القيام بأي عمل عسكري، حالياً، لضم تايوان إليها.
وحتى مرور خمسة أشهر من الصراع الروسي الأوكراني، تأكدت صحة رؤيتي، حتى جاءت زيارة نانسي بيلوسي، رئيسة الكونجرس الأمريكي، ثالث مسئولة في هرم السلطة في أمريكا، بعد الرئيس الأمريكي ونائبه، إلى تايوان، تلك الزيارة التي أبلغها الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بعدم تفضيل وزارة الدفاع الأمريكية، البنتاجون، القيام بها. فوفقاً لما نقلته جريدة وول ستريت، الأمريكية، أن محادثة هاتفية قد دارت بين الرئيس الصيني ونظيره الأمريكي، لمدة زادت عن ساعتين، قبل بدء الزيارة، أكد فيها الرئيس الصيني على عدم مناسبة التوقيت، للقيام بهذه الزيارة، والتي قد تكون سبباً لإثارة أزمة جديدة بين الدولتين، وفي نفس المحادثة، أكد الرئيس الصيني عدم عزم بلاده القيام بعمل عسكري ضد تايوان.
ومع إصرار نانسي بيلوسي، على إتمام زيارة تايوان، ضمن جولتها لعدد دول في جنوب شرق أسيا، انحبست الأنفاس، ونفسي معهم، أثناء متابعة اقتراب طائرتها من جزيرة تايوان، وسط تهديد الصين، ووعيدها، ولكن بحمد لله، هبطت الطائرة الأمريكية بسلام إلى مطار تايبيه، وخرجت علينا بيلوسي معلنة أن بلادها لن تسمح لبكين بعزل تايوان، وهو ما اعتبرته الصين تهديداً مباشراً لمبدأ “الصين الواحدة”، وهذا الأمر الذي تعترف به معظم دول العالم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، إلا أقل القليل منهم.
وتوتر الموقف سياسياً، قبل أن يكون عسكرياً، فعدد من الدول الأوروبية عارضت إتمام تلك الزيارة، نظراً لضخامة استثماراتها في الصين، ووصول حجم التجارة بين أوروبا والصين، في عام 2021، إلى 80 مليار دولار، في ظل اعتماد معظم الصناعات الأوروبية على الصناعات المغذية الواردة من الصين، وهو ما سيكون له أثاراً سلبية على الاقتصاد الأوروبي، حال نشوب نزاع سياسي، أو عسكري، مع الصين. ومن ناحية أخرى، عارضت أوروبا إشعال فتيل أزمة، تكون سبباً في انحياز الصين، التام، إلى روسيا، وتوطيد أواصر التعاون الاقتصادي معها، وهو ما من شأنه تخفيف وطأة العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة، حالياً، على روسيا. فضلاً عن إدراك أوروبا لأهمية تايوان، كمصدر رئيسي لمدخلات الصناعات الأوروبية، خاصة الرقائق الإلكترونية، مما عزز من رغبتها بعدم إثارة التوتر في تلك المنطقة الهامة من العالم، وفي هذا التوقيت بالذات.
وعلى أثر تلك الزيارة، غير المُرحب بها، أعلنت الصين إيقاف التعاون مع واشنطن بشأن موضوعات المناخ، وعدد من القضايا الأخرى، كما جمدت الاتصالات العسكرية القائمة بينها وبين أمريكا. ومن ناحية أخرى، بدأت في خطتها لترهيب الشعب التايواني، بتنفيذ أكبر مناورة عسكرية، في تاريخها، في ستة مناطق محيطة بجزيرة تايوان، وأعلنت القيادة الصينية أن هذه المناورات تركز على التصدي للغواصات والهجمات البحرية، بل وزادت على ذلك أن أطلقت صواريخ باليستية، تجريبية، خلال التدريبات، فوق العاصمة التايوانية، تايبيه، للمرة الأولى، مما اضطر عدد من خطوط الملاحة الجوية، لإعلان إيقاف رحلاتها في تلك المنطقة، كما فرضت تايوان قيوداً على الطيران، لنفس السبب.
نفذت الصين تلك المناورة العسكرية، أعدادً كبيرة من السفن الحربية والطائرات المقاتلة، حتى أن بعض المراقبين العسكريين، أعلنوا أنها استخدمت أنواعاً جديدة من الأسلحة، التي لم تستخدم من قبل، ولم يكن الغرب على علم بها. وعلى الصعيد الاقتصادي، قامت الصين بتطبيق إجراءات اقتصادية، رادعة، ضد تايوان، بعدما كانت المستورد الأكبر لمنتجاتها، بفاتورة تجارية بلغت 113 مليار دولار، في العام الماضي، كان معظمها عن الرمال الطبيعية، التي هي أساس رئيسي في الصناعات الإلكترونية، وأهمها الرقائق، التي تتميز بها تايوان. ومن ناحيتها، ورداً على المناورات الصينية، ومحاولات الترهيب العسكري، قامت الولايات المتحدة الأمريكية، بإجراء تدريبات مشتركة مع إندونيسيا، حول جزيرة سومطرة، استمرت حتى يوم الرابع عشر من أغسطس، كما بدأت في التخطيط لتنفيذ مناورة عسكرية كبيرة بقواتها المتواجدة في المنطقة.
ورغم كل تلك التصعيدات، لازلت أرى أن الصين لن تُقدم، في الفترة القريبة القادمة، على أي عمل عسكري، لاستعادة جزيرة تايوان بالقوة، وهو ما يرجع، من وجهة نظري، إلى التقدم الهائل الذي تحرزه الصين من الناحية الاقتصادية، حتى صارت المنافس، والخطر، الاقتصادي الوحيد الذي يهدد أمريكا، ولا أظن الصين قد تخاطر، في الوقت الحالي، بتعطيل مسيرتها الاقتصادية، واستنزاف مواردها في عمليات عسكرية، في أي اتجاه، فيكفي ما أنفقته من مليارات الدولارات في مبادرة الحزام والطريق، التي تشارك فيها 123 دولة، لربط الصين، اقتصادياً، مع دول آسيا وأوروبا وأفريقيا.
وفي نفس الوقت، تُدرك الصين أن قوتها العسكرية تتناسب طردياً مع قوتها الاقتصادية، فكلما ارتفعت معدلات نموها الاقتصادي، كلما تمكنت من تعزيز قواتها المسلحة، ورفع كفاءتها، كما أثبتت، عملياً، من خلال مناورتها الأخيرة. وأظن أن القيادات الصينية تعمل بمبدأ “تايوان موجودة … هتروح فين”، وهو ما يؤكد أن العقل الصيني لن يقدم على مغامرة القيام بأي عمل عسكري ضد تايوان، ليس قبل السنوات الثلاث القادمة.